Feeds:
المقالات
التعليقات

Posts Tagged ‘ذكريات’

وصلني برودكاست مضحك عبر الواتس أب يتكلم فيه عن بعض قفشات الماضي ، ومقارنات بين قطط الماضي وقطط اليوم ، وعرائس الماضي وعرائس اليوم ( جمع عروس وهي الفتاة حديثة الزواج لا الدمية ) ، وبنات الماضي وبنات اليوم .. كل ذلك مضحك ولكنه مكرر وقرأنا أمثاله الكثير، إلى أن نحا البرودكاست منحى أكثر جدية بنفس القالب المضحك ، حين تعرض لذكريات سببت لي – لسبب أجهله- شيئاً من الغصة والضيق ..

اقرؤوا معي ، وليخبرني قرائي – من زمن الطيبين أمثالي – هل شعروا بنفس غصتي ، أم أنني فقط من تتوهم ؟

” أيام زمان : تلفزيون والعشاء نواشف ، والمروحة على 5 ، وجالس تحل واجب الخط ، كانت حياة جميلة .

كل ما تعدي طيارة  نقعد نصرخ ونعمل لهم باي باي .

كنا نستنى سنة رابعة ابتدائي عشان نكتب بالقلم الحبر.

نستنى الامتحانات عشان ما ناخذ شنطة، ونستنى وقت الشهادة  عشان نلبس حلو ونتشيك .

لما أحد من أهلك يطلب منك كاسة موية  لازم تشرب شوية وقبل ما تدخل تمسح فمك عشان ماحد يعرف أنك شربت .. أكيد أنت تبتسم الآن على الأيام الجميلة .. حاول ترسلها لأصحابك ، حتلاقي نفسك بترسم بسمة على وجوه ناس كثير .. مجرد ابتسامة وقلب نظيف ، ونفس سموحة : هكذا تعيش جمال الحياة ” .

بالفعل ، ابتسمت وأرسلتها لصديقاتي ، ولكني شعرت بالضيق فجأة .. شعرت بشوق لسماع صوت المروحة الرتيب ، لهواء الحجرة الدافئ يداعب وجهي ( عبال ما يرتاح المكيف شوية يابنتي ) ، للفرحة المعلنة التي يطلقها إعلان أمي أننا سنتعشى اليوم بروست بدلاً من البيض والجبن المعتادين ، لجلساتي المسائية مع ابنة خالتي على أرضية البلكونة ، نأكل الفصفص ونشرب البيبسي المثلج ونتفرج على السيارات المارة ، وكأن أنوار السيارات عقود الضوء معلقة على عمارة عتيقة تعلن عن مِلكة أو عرس في السطح .. هل حضرت قط عرساً في سطح ؟

اشتقت لزياراتنا لجيراننا : ألعابهم غير ، وطعامهم غير ، ورائحة بيتهم غير .. كل شيء غير ، طالما أنه مختلف عما كان عندي في البيت .. ولزيارات بيت خالي الدورية في عطلة نهاية الأسبوع : عندنا أسبوع ، وعندهم أسبوع : نفرش “الطراريح” ، ونعد أفلام السهرة ليتفرج عليها الكبار ، في حين نغرق نحن الصغار في ألعاب ممتعة : مسرح عرائس ، شركات ومدراء ، برامج تلفزيونية ، وكل ذلك تكون فيه طاولة الكوي العنصر الأساسي المهم في الديكورات ، فهي تارة خشبة المسرح ، وتارة مكتب المدير ، وثالثة طاولة مقدم البرامج .

اشتقت لذلك الفرح الأصيل بلقاء عائلة خالتي كلما قضينا العيد عندهم في الخبر – مسقط رأسي- حيث تجتمع العوائل وتوصل حبال المودة  ، نصنع الزينة بأيدينا من ورق الكريشة ، ونفتح الهدايا يوم العيد ، بتؤدة ورصانة في البداية ثم لا نملك أنفسنا من تمزيق كل شيء كالمجانين وسط ضحكات الكبار واستحسانهم ..

بعض الروائح والمذاقات لا تزال في حلقي .. هل سمعتم برائحة تجد أثرها في الحلق ؟ الحقيقة – رغم غرابتها – أني

أجد هذه الروائح العتيقة في حلقي . سرني أن  أجد أن هذا البرودكاست قد أحدث نفس الأثر في نفوس صديقاتي .. فعلمت أني لست وحدي (غاوية النكد ) ..

شاركتني صديقتي الفاتنة سارة ( هل تذكرونها ) بعضاً من ماضيها الجميل ، ووهبتني شيئاً من شذاها العبِق ، ووجدت نقاط مشتركة كثيرة ، رغم أن ماضيها في المدينة ، وماضيّ في جدة ، ولكن الزمن واحد والطفولة واحدة ، وإن اختلفت البلدان .

تساءلتُ : لماذا نجد الماضي سعيداً ، رغم أن الحاضر أيسر وأسهل ؟ فأجابتني سارة بإجابة رغم بساطتها وبدهيتها ، إلا أنها غابت عني حيناً من الدهر : الحياة البسيطة تثير المشاعر وتقويها ، وتحسسك أيام الطفولة بالدفء الاجتماعي. ثم سردت لي بعضاً من طفولتها : تنزلي عند الجيران = تسكني عند الجيران ! تنامي عند قرايبك على مراتب يفرشونها في الصالون ، تلتم الأسرة في  الشتاء على المنقل “وبكرج” الحليب ( هل ثمة من يذكر هذه الكلمة ؟) وفناجيل باعشن. الصدور كانت واسعة ولا تشعرين بالحرج لو نقصك شيء واستعرت من الناس ، والعائلة وضيوفها كلها- وأنتم بكرامة – في دورة مياة واحدة ، ولا يصيبهم الضيق لذلك ، إذ الضيق في الصدور .

ذكرت لي الذهاب للبساتين صباحاً مع العائلة ( البساتين التي كادت أن تندثر مع توسع المدينة العمراني ، والله العليم ماذا سيحل بها بعد نزع الملكيات ) والاجتماع على الفطور : جبنة ، زيتون ، شريك ، شاهي منعنش ، وأحياناً حلاوة طحينية وفول وبيض حسب التيسير . نسيم البستان المحمل برائحة الزرع ، وصوت ” ماطور” الماء لازال في أذني حتى الآن ، كما هو صوت المروحة ، وكأنه يقول : استمتعوا بلحظات عذبة قد لا تعود إليكم متعها أبداً.

أتذكر تسليتنا بالدمى على مختلف الأنواع ، وإلا فلعب بالطين في الحوش وبعلب الجبن والصلصة نصنع قوالب “الكيك” ، ونلعب الزقيطة أو أم الخمسة ونط الحبل واللب ( التيلة أو البلي ، تعددت التسميات ) ، وحينما نغافل أهالينا أحياناً لننفلت في الشارع، نشتري البليلة و “تماتيك” ، وأحياناً أيسكريم التركي أو شراب الخربز المثلج (سلاش) أو المنتو من اليمني أو المنفوش فذلك النصر المظفر .

كثير من ذكريات سارة تشابه ذكرياتي : أنا أيضاً كانت أحلى أوقاتي حين أذهب للدكان مع أخواني وأتطلع إلى الحلويات وكأنها مجوهرات بولغاري أو ساعات رولكس ، وأشتري بنصف ريال ما أعجز عن حمله ، ثم نعرج على مخبز “الهولي” لنشتري منه خبزاً لابد أن يهش له الوجه النكد ! وأتوقع أن أهل نجد يجدون في رائحة الشجر المحترق وثغاء الماشية وخوار الأبقار سيمفونية عذبة مع “ماطور” الماء نفسه الذي يمد قنوات المزرعة بالحياة .

كانت الحياة بسيطة غير معقدة .. متعبة أحياناً .. يفوتك بعض من طيباتها أحياناً لقلة ذات اليد ، أو لصرامة الأهل، ولكن كانت الألفة والاجتماع والمشاعر الطيبة هي السائدة ( غالباً) . أخبروني .. هل لا زال أحد من الأطفال في هذا الزمن يرضى أن يحمل كوباً ويذهب به إلى الجيران ويقول لهم : أمي تسلم عليكم وتقول لكم أعطوني سكراً ؟ هل  لازال أحد يرسل لقيمات وسمبوسك وبريك في رمضان طعمة للجار غير الحميم ؟ هل يستطيع أطفالنا أن يقضوا سحابة أيامهم بلا أيبادات أو أجهزة (غبية) سلبت منهم بهجة المشاعر البشرية مع أشخاص حقيقيين ، وليسوا افتراضيين يوالونهم على حساب والديهم وإخوانهم ؟ هل لا زال مسمى “العائلة” و “الجيران” بمعناها الحقيقي موجوداً ؟

أرثي لحال أطفالي وأحفادي ، حين يكبرون ويحتاجون لتحديث ذاكرتهم أحياناً ، ماذا سيسترجعون ؟ إما شاشة أيباد أو شاشة أيبود أو شاشة كمبيوتر .. فأين الحب والذكريات السعيدة والعلاقات الاجتماعية البشرية ؟ أين اللعب مع الأقران ومحبة الوالدين والإخوان ؟ بل وفي كثير من الأحيان يمتد هذا السخط لينال من الدين والأعراف النبيلة ومكارم الأخلاق بعدما انتهت السخرية من الأمور العادية ..

يضحكونني حين يسمعوننا نسترجع القديم فيقولون بنرة سخط واضحة : أيامكم كانت “بيض” !!

وددت لو أني عرفت ما المسلي في أيامكم أي بَنيّ وأنتم لا تفتؤون تشتكون : طفش ، ملل .. حتى إذا ما هممت بإلقاء محاضرة تربوية قيمة، لم ألبث أن أُذكر نفسي أن هذه حياتهم ، وأن كلامي لن يزيدهم إلا سخطاً ونفوراً .. فأخرس على مضض وأحاول أن أُغرق نفسي في بعض الذكريات ترطب شيئاً من جفاف الحياة وتهبني قبساً من دفء الماضي ..

Read Full Post »

حينما كنت أتعالج بالعلاج الكيماوي ، كان يصيبني إرهاق شديد ، وتحولات عجيبة في براعم التذوق في لساني ، فكنت لا أجد للطعام طعماً أحياناً ، وأحياناً أخرى أجده متنكراً ، فالحلو يضحى مالحاً ، والمالح يصبح مراً ، وأنا بين هذا وذاك أبحث عن الحل الصحيح .

غني عن الذكر أن ذاكرتي وذهني كانا يعملان بفوضى بسبب وطأة الكيماوي ، فإما بطئاً ، أو تشويشاً أو أي شيء لا يمت بصلة إلى الذهن الذي كنت أعهده فيّ قبل المرض ..

كل الملابسات كانت محبطة ، ولكني وجدت لذلك مخرجاً .

أدمنت في تلك الفترة لعبة كمبيوترية اسمها Cooking Dash ، وهي عن فتاة تبني مطعمها الخاص بالتدريج ، تبدأ بكراسي بسيطة وأثاث متواضع ، بل ووجبات محدودة .. تدور لتخدم زبائنها المتطلبين وتحاول ألا تخلط بين الطلبات وإلا فستتعرض لغضبهم وخروجهم من المطعم وبالتالي خسارتها .

كان عليها أن تحقق هدفاً يومياً لتحرز المزيد من النقود التي تمكنها من شراء أفران جديدة أسرع ، وتقديم وجبات أكثر تنوعاً ، وتغيير الأثاث بآخر أكثر فخامة ليجتذب الزبائن .

كنت أبدأ اللعبة حالما أتمكن من الجلوس في سريري بعد جلسة الكيماوي ، وقد أستغرق في اللعب بها لمدة ساعتين متواصلتين دون أن أشعر بنفسي ، ثم أختم المرحلة الخمسين في خلال الخمسة أيام الصعبة بعد تناولي للكيماوي .

كنت لا أتمكن من فعل أي شيء مفيد في تلك الأيام شديدة الوطأة ، أتكلم قليلاً وآكل قليلاً وأتحرك قليلاً . حاولت أن أراجع محفوظاتي من القرآن فكان ذهني لا يستقيم لي ، وكانت ذاكرتي تضحك من سذاجتي . فلما اكتشفت اللعبة ، أحسست أن هناك آفاقاً واسعة لا تزال متاحة .

كنت ألعب بتركيز ، أخسر أحياناً فأعيد المرحلة ، وأفوز أحياناً فأقوم بترقية مطعمي . كنت أفرح بكل قطعة جديدة أشتريها وكأني حزتها بالفعل . كنت أنتشي بسماع صوت البطاطس وهو يُقلى ، والستيك وهو يُشوى وأنا المحرومة من مذاق الطعام اللذيذ .

 أصوات ارتطام الملاعق بالصحون والكؤوس بعضها ببعض كان يأسرني وينقلني إلى جو حميمي ساحر ، أتناول فيه طعاماً واضح طعمه ، غير متنكر ، مع رفقة حبيبة في مطعم خافت الأضواء ، لا تسمع فيه إلا همسات المرتادين ، وأصوات ارتطام ملاعقهم بصحونهم وكؤوسهم .. نفس الجو الذي ألعب فيه .

ختمت اللعبة ثمان مرات ، بعدد جلسات الكيماوي ، وكلما وجدت جزءاً جديداً للعبة سارعت بشرائه وتحميله . كنت ألعب وأنا أشعر بنوع من السخافة ، ولكني لم أكن أستطيع أن أقاوم .

وبعد تفكير عميق عرفت سبب هذا الانجذاب للعبة . كانت اللعبة الإنجاز الوحيد الذي كنت أستطيع تأديته في تلك الفترة . كانت تطلق خيالي لبناء مطعمي الشخصي .. كانت تربطني بأمل .. كانت تربطني بالحياة في وقت كنت أشعر فيه أن جميع السبل مسدودة أمامي ..

كل فرد منا – ليس مريض السرطان فقط – بحاجة إلى إنجاز يشعره بأهميته ووجوده ، ولتحلو حياته ويصبح لها معنى .

 لا يشترط أن تكون الإنجازات كبيرة وعظيمة .. قد  تكون مراجعة جزء من القرآن ، أو حياكة قميص جديد ، أو الانتهاء من رسم لوحة فنية أو كتابة شطر من كتاب لطيف..

 يكفي أنه يشعر بالسعادة بعد تحقيقها ..  يكفي أنه يشعر بالإنجاز ..

كنت أنتظر انتهاء علاجي الإشعاعي بفارغ الصبر لأتوجه إلى مقاعد الدراسة الجامعية التي تركتها منذ 27 سنة . فلما فعلت صرت أرتشف لذة التعلم ، واسترجاع المعلومات ، وتلخيص المسائل المهمة ، ثم أستمتع بطعم التفوق في نهاية الفصل الدراسي .

والآن ، يمكنني القول بأنني أنهيت – رسمياً – ثلاث سنوات من الدراسة الجامعية في كلية الشريعة ، وصرت في السنة الرابعة والأخيرة .. أشعرت كيف مرت السنون ، وصار الماضي الأليم ذكريات سعيدة ؟ 

بهذه المناسبة يسرني أن أدعوك إلى مطعمي الافتراضي لتناول وجبة مجانية فاخرة مكونة من البطاطس المقلية والستيك المشوي .. تفضله مشوياً جداً أو متوسطاً ؟

Read Full Post »

هل تصبرون معي لقراءة ذكريات لن تهمكم ، لعلكم تجدون في بعضها بعضاً منكم ، فالذكريات كثيراً ما تتشابه ، وما ألذ حديث الذكريات السعيدة ، وهي لعمر الله من المتع المبهجات..

إن لم تطلع على الجزء الأول من  استجلاب الذكريات ، فلعلك تفعل الآن ..

في الإجازة الصغيرة منتصف الفصل الدراسي ذهبت في زيارة شائقة إلى الذكريات .. إلى مسقط رأسي .. إلى الخبر الجميلة على الساحل الشرقي .

كانت هذه المرة الأولى التي تجتمع فيها كل هذه العوامل معاً منذ 31 سنة : أذهب أنا وأمي أخي إلى الخبر لأرى جميع أهلي هناك .

هل لي أتحدث عن انطباعاتي عن تغير الدرجة الأولى في الخطوط السعودية عنها قبل ثلاثين سنة وتردي خدماتها ومقاعدها ووجباتها أم أجعل التدوينة خالصة لسرد الذكريات ؟

لا داعي لحرق الدم ، أليس كذلك ؟ حسناً , لننطلق إلى الساحل الشرقي .

حين هبطت في المطار الجديد – بالنسبة لي –  هالني حجمه ورقيه مقارنة بمطار جدة التعيس في جميع نواحيه ..

يكفي الخراطيم التي تنقل المسافرين من وإلى الطائرة  في حين لا يزال مطار جدة يعيش على الباصات والسلالم .

عذراً عذراً ، وعدتكم أن لن أتكلم بما يحرق الدم ..

تذكرت وأنا أمشي في مطار الملك فهد مطارَ الظهران القديم .. شعرت أن طعم الذكريات في حلقي .. أحسست بالروائح والمشاعر تتلبسني . هل تعرف هذا الشعور ، حينما تستغرق في تفاصيل ذكريات قديمة ، وتنفصل عن الواقع تدريجياً حتى لتكاد تشعر بحرارة الهواء آنذاك على جلدك ، تستنشق تلك الروائح وتسمع تلك الأصوات ..

كنت أمشي كالمغيبة ، منبهرة ومنتشية ، لا من هذا المطار الجديد ، وإنما من ذاك الذي برز في مخيلتي ، حين كان أبي رحمه الله يأخذني وأنا صغيرة لنقضي بعض الوقت نتفرج على الطائرات وهي تصعد وتهبط ريثما تقضي أمي زيارتها لصديقتها التي كانت تسكن في سكن المطار الفاخر . كان المدرج قريباً ومتاحاً ويحكي لي أخي أنه كثيراً ما أفلح حين كان طفلاً في الإفلات من بين قضبان السور ليمشي بحرية في مدرج المطار .. أخبرته أني لا زال أذكر في المطار وجود حديقة ما تنضح بعشب قوي الرائحة ، وفيها مراجيح معلقة ، فأطرق بذاكرته إلى خمسين سنة مضت ليقول بصوت حالم : كانت تلك حديقتي المفضلة حينما كنا نسكن في المطار قبل انتقالنا إلى الخبر ..

كلما شممت الآن رائحة العشب الأخضر تدرج ذاكرتي تلقائيا صورة تلك الحديقة التي كنت ألعب فيها وأنا ابنة الخامسة  ، أتمرجح عالياً مع أطفال آخرين لا أعرفهم ، لا يجمع بيننا إلا  صخب الطفولة ..

من قال أن أطفال الخامسة والسادسة تكون ذاكرتهم قصيرة ولا تسعفهم بتفاصيل تلك الحُقب حين يشيبون ..

لو قال بذلك قائل فأنا أؤكد له أنه مخطئ بجدراة .

كان اجتماعنا ليلة الوصول في بيت خالتي لتناول العشاء . دخلت البيت الجديد وتذكرت ذلك البيت القديم الذي كنا نقضي فيه أعيادنا بعد انتقال عائلتي للسكن في جدة قبل أربعين سنة .

كان العيد في جدة مؤلماً وكئيباً وموحشاً حيث لم يكن لدينا هناك إلا بيوت أخوالي فقط ، الذين لم ننشأ معهم ولم نألفهم بعد . كم حاولت أمي تزيين عيدي بفساتين جميلة وزينات مزركشة وأنوار ملونة ، وتأخذني في زيارة لملاهي لونا بارك عصر يوم العيد ، ولكن ما كان ذلك ليفلح في إسعادي وإبعاد ذكريات أعياد الخبر عن ذهني .

إلى أن قررت أن نذهب بعد ذلك لقضاء العيد مع الأهل ..

 الأهل .. يالها من كلمة جميلة عظيمة .. عندها شعرت أن العيد قد عاد له رونقه وبهاءه وجماله .

كنت أجمع من مصروفي الشهري طوال السنة لأشتري به هدايا العيد البسيطة لخالاتي وبنتي خالتيّ اللتين كانتا – ولا زالتا- أختين حين منعني الله الأخوات الحقيقيات .

كان  العيد في بيت خالتي من أجمل ما يمكن أن يحدث لي .. اجتماع العائلة الممتع ، إفطار اليوم الأخير من رمضان، إعداد الزينة من ورق الكريشة الملونة ، والإحساس بالأهمية وسط كل هؤلاء الكبار ، محاولات إخفاء الهدايا المغلفة سلفاً عن أعين الفضوليين من الصغار .. حتى غسل الصحون هائلة العدد كان ممتعاً ما دام مع القوم .

والان أنا أدخل الدار التي فيها نفس الأشخاص الذين كنت أقضي معهم أعيادي القديمة .. إلا أن الدار غير الدار .. هل أزعم أن قيساً كذب بعض الشيء ليضفي نوعاً من الرومانسية على قصته حين قال :

وما حب الديار شغفن قلبي                     ولكن حب من سكن الديارا

هذه دار جديدة ، أنيقة ولكن ليس فيها أياً من الذكريات . ليس فيها تلك المخابئ التي احتوتنا صغاراً ، ولا بقايا اللصاق الذي ثبتنا به زينة العيد ، ولا الجدران التي كانت تسترق السمع لأحاديثنا ليلاً بعد أن ينام الكبار .

كذب قيس – غفر الله له – فحب الديار له شغف ووجد ، خاصة لو حَوَت لحظات جميلة .

في اليوم التالي اصطحبني أخي في الصباح المبكر مع بناتنا لنبحث عن ذكرياتنا القديمة .. مررنا بشارع الأمير خالد ، شارع السوق الكبير في زمني .. رأيت هذا المحل الجميل الذي كان يجلب البضائع المستوردة ، ومنه كانت أمي تشتري ألعابي الفاخرة  . تذكرت للحال لعبة  طابور البطات الصغيرات اللاتي يمشين وراء البطة الأم ، والتلفزيون الصغير الذي يعرض صوراً متحركة بأناشيد الأطفال الانجليزية  المشهورة : ماري عندها حمل صغير ، وجسر لندن يسقط ويسقط  .. رأيت الشارع الضيق الذي كنت أراه كبيراً ، وما علمت إذ ذاك أن عيون الأطفال ترى كل شيء كبيراً .

مشينا قليلاً فإذا بي أمام مدرستي .. صارت الآن مأوى لعمالة ما ، مهدمة ومرقعة ، ولكني أبحرت في فصولها ودهاليزها بذاكرتي .. هنا كان فصلي .. وهنا مستودع الكتب الدراسية التي كانت تسحرني رائحتها .. وهذا المسرح الذي كنت أقف عليه لأنشد في الحفلات .. أما هنا فحجرة التدبير المنزلي .. أتذكر جيداً حين كان موقد حجرة التدبير يعطب فينادونني من فصلي لآخذ صينية البشاميل لبيتنا الذي لا يفصله عن المدرسة إلا شارع صغير ضيق ، فأعطيها لأمي مصحوبة بسلام المعلمة كي تضعها في فرننا حتى تنضج .. لا تسل عن اعتزازي وشعوري بالخطورة وأنا أخرج أمام صديقاتي شامخة الرأس ، فخورة للعبي دور المنقذة من هذا الموقف السخيف الذي سببه الفرن الكهل .

جلت ببصري أبحث عن بيتنا فارتد إلي بصري خاسئاً وهو حسير .. ما وجدت إلا دكاكين صغيرة تتثاءب استعداداً لبداية يوم جديد .. أحسست بشيء من القهر .. أين ذكرياتي ؟ هنا كان بيتنا .. أذكر في فنائه بيت أرانب صغير، وحجرة إخواني بالطابق العلوي ملأها أخي الماهر بالرسم رسوماً متقنة للشخصيات الكارتونية المعروفة آنذاك ، أذكر القطط التي كانت تجول ، ومن هناك نما شغفي بالقطط . أذكر شجرة الفل والتي كانت تهبني يومياً فلة ضخمة عبقة أهديها لمعلمتي في الصف الأول الابتدائي ..

شعرت بشيء من الإحباط وخيبة الأمل ، ولكني سرعان ما نفضته عن ذهني قائلة : أصلا عادي !

أما عن زيارتي لشواطئ الخبر فتلك حكاية أخرى .. شواطئهم غاية في الروعة والجمال .. شواطئ “متعوب عليها” ، والجميل أنها للشعب .. لكل الشعب .. كل الشعب يستطيعون أن ينزلوا في الشاطئ ويستمتعوا بالبحر والرمل ..

هنا ، في شاطئ العزيزية أو في شاطئ نصف القمر والذي لا نزال نسميه بتسميته القديمة جداً Half Moon Bay ، كنا نقضي أول يوم من أيام عيد الأضحى قبل أكثر من ثلاثين سنة .. نبحث عن بقعة فارغة ، غالباً خلف أحد الطعوس المجاورة للشاطئ ونخيم مع عائلة خالتي .. نسبح  ونشوي ونتسامر و ( نشب الضو ) ونقضي أجمل الأوقات دون أن يتطفل علينا أحد من الخارج .. كنا إذا وصلنا انطلق زوج خالتي في ممارسة هوايته في المشي ، فيمشي حتى يغيب عن أنظارنا .. قد ألحق يه إلى مسافة معينة ، أبثره بأسئلتي وثرثرتي ولكنه كان دائماً يجيب بابتسامة عذبة وصدر رحيب .. كم تمنيت أن أراه هذه المرة .. ولكن الزهايمر ثم الموت غيّباه عنا ، فتوفي قبل أن ألقاه لأذكّره بكل ما مضى.

حديث أيام الطفولة عذب .. ذكراها لذيذة ، ونشواها تفرح القلب الحزين .. وعلى آثارها نعيش لحظات جميلة .

 غادرت الخبر آسفة .. كم تمنيت لو جلست هناك أسابيع ..

يومها قلت لإحداهن  : لولا أني في المدينة ، ولا أرضى لها بدلاً لرجعت أعيش في الخبر ..

أطلت عليكم ، سامحوني ، ولكن يخفف عني أني أعلم يقيناً أن بعضكم كان له ذكريات تشبه ذكرياتي . وسأحب حتماً لو شاركتموني بهذه المتعة :  استجلاب الذكريات .

Read Full Post »

هذه التدوينة يجدر بي أن أسميها : “مادة الهروب” المستوى الثالث ، أو : الهروب 301 ، إذ أنني أمارس فيها عادتي السيئة بالهروب من المذاكرة ، فالاختبارات كما قد لا تعلمون بعد ثلاثة أيام .

في الحقيقة أنا بحاجة إلى بعض الراحة ، إذ بدأ النعاس يداهمني  وآلمني فكي لكثرة التثاؤب فآثرت ( تغيير الجو ) عبر كتابة تقرير لما حصل معي في رحلتي لحضور اليوم العالمي للمتعافين من السرطان ..

والآن ، هل تودون معرفة التفاصيل المملة للزيارة ، وكما يقولون : من طأطأ لسلامو عليكو ، أم تريدون تلميحات سريعة؟

بما أني لم أعرف ماذا اخترتم فسأكتب كيفما اتفق ونرى ماذا ستخرج يديّ  الماهرتان .

سافرت للرياض يوم الأربعاء 11/6/1433 مع ابني خالد ، وكانت الرحلة طيبة بفضل الله إلا بقايا ذكريات أصابتني ببعض الحسرة حينما أجريت مقارنة سريعة بين مستوى الخطوط السعودية قبل ثلاثين عاماً ومستواها الآن .

هذه المقارنة تمت حين رأيت “علبة ” الإفطار والتي حوت ” عينات ” من الطعام ، وعلى الفور توافدت إلى ذهني صور قديمة لطعام الخطوط السعودية المشهور آنذاك . الصينية التي تحتوي على عصير وكوب للشاي/القهوة والأطباق الفاخرة التي تحوي على مقادير جيدة من الطعام المعد والمزين بعناية ، فتأكل عيناك قبل أن يتذوق لسانك . وتذكرت الكراسي التي كانت أكثر راحة وتعامل المضيفين الراقي ..

أقول لكم ؟ لا داعي لأن نفتح هذا الموضوع وإلا فسيتحول التقرير إلى : الخطوط السعودية وأثرها على الفرد والمجتمع !

حينما وصلنا للرياض كنت مبتهجة لأننا سندخل إلى المطار عن طريق الممرات المتحركة الموصلة بالطائرة والتي يسميها البعض ” خراطيم” .

 كنت أشعر أني “متحضرة ” وأنا أمشي بزهو في هذه الخراطيم ذات الأرضية المنقشعة والتي يصنف لونها من درجات البني أو ربما الأحمر .. وقد يكون البرتقالي ، فهو لون كما تلحظون : دقيق للغاية !

العجيب أنه عُرضت في ذهني صور فلاشية لأرضيات الخراطيم في مطارات أوروبا  وأمريكا كما رأيتها منذ 27 سنة .. ولا أعرف ما السبب !!

 ودعوني أؤكد لكم .. كانت أرضيات مرتبة ، وقد لا أكون مخطئة لو قلت أنها مكسوة بالبساط .

المضحك في الأمر أننا بعد أن دخلنا المطار صعدنا ونزلنا وذهبنا يمنة ويسرة متتبعين الأسهم ثم وجدنا أنفسنا فجأة خارج المطار مرة أخرى لنركب باصاً ..

لا.. ( ورايا ورايا ) الباص ؟ في جدة ، والمدينة وحتى الرياض ؟

ركبنا الباص لننتقل من مبنى الرحلات الدولية ( والتي لا أعرف لم توقفنا في مواقفها ) إلى مبنى الرحلات الداخلية ، فشعرت فعلاً بما شعر به صاحب المثل الأشهر : فين إذنك يا جحا !

ما علينا .. لابد أن أقاوم بشدة الرغبة في حش الخطوط السعودية ومطاراتنا المهيبة لئلا أُتهم ( بالفقعنة ) و( البطرنة) وكل ما كان على وزن ( فعلنة ) ..

 والسؤال هو : هل هناك وزن فعلنة أصلاً ؟

في الثانية عشر والربع بدأنا رحلة البحث عن مركز الملك فهد الثقافي والذي أقيمت فيه هذه الفعالية الرائعة .

 بلا شك كانت الطرقات ممتلئة بالسيارات فهو وقت الذروة ، أضف إلى ذلك أنه الأربعاء الجميل .

وصلنا أخيراً .

 

من الداخل كان المركز راقياً ، مرتباً ، ومرة أخرى تداعت صور استاد الأمير عبد الله الفيصل بجدة إلى ذهني . فقبل 28 سنة أقامت مدرستي دار الحنان فيه يوماً رياضياً كان من أجمل أيام حياتي المدرسية ..

كان المركز خلية نحل ، يغص بالعاملين والمتطوعين والأطباء والمرضى في خليط متناغم  ومرتب ويبعث البهجة في القلوب فعلاً ..

تستطيع للوهلة الأولى أن تدرك ضخامة الجهد المبذول ليبدو المكان بهذا التنظيم والأناقة .

البالونات الملونة في كل مكان .. الأركان المختلفة موزعة في نظام .

المكيفات تعمل بكفاءة ممتازة وضوء النهار البهيج يغمر المكان .

استلمت طاولتي وعليها لوحة تعرف بي ، ورصصت كتبي التي كنت أعرضها للبيع وجلست أنتظر .

كنت أطالع المكان بانبهار ، فأنا أحب هذه الأجواء للغاية .. وكوني آتي إلى هنا بصفة رسمية كمتعافية تحكي للناس قصتها مع المرض لتبث الأمل في القلوب بالنجاة والشفاء ، لا شك أنه كان أمراً غاية في الإثارة .

كنت مهتمة – طبعاً – ببيع كتابي والتوقيع عليه لمن يرغب ، ولكن اهتمامي الأول كان منصباً على فكرة ( بث الأمل) ومساعدة الأطباء والمهتمين بمعرفة المشاعر التي مررت بها أثناء مرضي ، خاصة إذا علمنا أنه ليس كل المرضى تواتيهم الجرأة في طرح مشاعرهم للتداول والنقاش ، وأن أكثرهم يفضلون الاختباء والانزواء إما خشية العين  ، أو رغبة في نسيان هذه الحقبة الزمنية المؤلمة.

بعد أن استقريت في مكاني بلحظات زارتني مجموعة من متابعاتي الجميلات في تويتر ، طلبن الكتاب وطلبن توقيعي عليه. وأؤكد لكم .. كانت لحظات سعيدة ..

أحسست أن دعائي الذي توجهت به إلى الله تعالى بإعجاب الناس بالكتاب قد أخذ في التحقق شيئاً فشيئاً.

نعم .. شعرت ببعض الأهمية .

قابلت كذلك إحدى الأخصائيات النفسية والتي أجرت معي حديثاً مطولاً عن أهمية مجموعات الدعم لمريض السرطان وكم أسعدني حين قابلت عندي مسؤولة القسم النسائي في الجمعية الخيرية لمكافحة السرطان وتفاهمتا بشأن التعاون على إنشاء هذه المجموعات .. شعرت أنني ( وفقت بين راسين بالحلال ) .

بلغت الإثارة أوجها حين طلبت مني صحفية بجريدة الشرق الأوسط إجراء مقابلة صحفية معي .

مرحى مرحى .. أنت تخطين نحو العالمية يا هناء .

وبوجل جلست أراقب بعض العمال وهم يحملون السماعات الضخمة ليضعوها في بهو المركز حيث كانت طاولتي ، ودق قلبي بعنف .. أعلم أن هناك عروضاً موسيقية ولكن هل تكون هنا؟

وصرت أتمتم بشدة  وأدعو الله ألا تكون هنا حتى لا أضطر لمغادرة المكان ، فلست في حاجة ولا ضرورة لأمكث في المكان وسط المنكر .

ولكن ربك حميد .. كانت هذه السماعات لمقدم الحفل الذي ظل يعلن عن الفعاليات والمشتركين فيها عدة مرات ليلفت نظر الزوار إليها .

كان هناك ركناً لأحد المصورين ، وركناً آخر لأحد رسامي الكاريكاتير ، وإحدى الفنانات التشكيليات ، كما كان ثمة ركن للمأكولات الشعبية ، والتي – حتى هذه اللحظة – أعض على أناملي ندماً أني لم أتذوق المرقوق والجريش بسبب يبوسة  قشرة المخ عندي !

في الحقيقة وددت لو أني استطعت التجول في أنحاء المركز والمرور بأركان الجمعيات والتي كانت توزع أكياساً تحوي أشياء  لا أعرف كنهها ..

 أحب تجميع العينات والكتيبات التعريفية ، لأعود بها إلى المنزل كتذكارات ولكني لم أتمكن من القيام عن مقعدي .. شيئ ما كان يشدني للجلوس ، فاكتفيت بالنظر هنا وهناك فقط .

قدمت جهة ما طعام الغداء للمحاضرين ولكني لم أتمكن من تناوله في الوقت المناسب نظراً لانشغالي بالحديث مع طالبات التوقيع أو مع بعض المريضات اللاتي أتين يستفسرن عن مرضي والعلاج .

حين وجدت فسحة من الوقت هرعت سريعاً لتناول ما يمكن تناوله من الغداء والذي كان قد برد وتلاشى من الحافظات الضخمة ، ولكنك تراه للأسف في الأطباق التي انتشرت على الطاولات كعادة السعوديين الشهيرة التي تنص على ملء الأطباق بجميع أنواع الطعام المقدمة وتذوق لقمة من كل نوع وترك الباقي ، فلا هم أكلوا ما حملوا ، ولا أنهم تركوه غيرهم يأكل .

عدت سريعاً لطاولتي لأتلقى المزيد من المستفسرات وطالبات الكتاب والتوقيع .

وبدأ عرض القبة الفلكية والذي كنت أتطلع لحضوره ، ولكني لسبب أجهله لم أفعل ..

أشياء كثيرة فاتني رؤيتها , ففي الحقيقة أستطيع أن أؤكد لكم أن هذا التقرير المزيف الذي تقرؤونه هو تقرير قاصر بكل معاني الكلمة .

ولكن عموماً ، أنتم تقبلونني بكل قصوري ، أليس كذلك ؟

أمامي في  بهو المركز كان فريق هارلي ديفدسون مع أربع أو خمس دراجات بخارية ، تتراوح أسعارها فيما أعلم بين 40000- 90000 ريال . أتاحوا الفرصة للحضور في امتطائها والتصور معها .

وللحق أني لم أعلم السر في إصرار الفريق على الظهور بمظهر غربي بحت : التي شيرتات الغريبة والبندانات وبعض السلاسل والتي أظهرتهم كقراصنة .

أحدهم كان ينقصه عصابة العين السوداء أو الذراع المنتهية بخطاف حديدي ضخم ..

همممم ، ربما لو أحضر ببغاء ليقف على كتفه لوفى ذلك بالغرض .

نعم .. أعترف .. لست “كولاً” لهذه الدرجة التي تتيح لي تقبل الكثير من المشاهد التي رأيتها أمامي في ذلك اليوم .

مع أنني أدعي ” الكوالة ” إلا أني أقيدها على الدوام بكونها من الطراز القديم .

لذلك لم أتقبل أبداً رؤية ” التميلح”  الذي انتهجه الشباب والشابات الإعلاميين والمتطوعين أمامي ..

أنا في البهو – كما أخبرتكم – فكانت كاميرات القنوات التلفزيونية الفضائية وكمية هائلة من الناس كلهم يحملون الكاميرات الاحترافية يقومون بالتصوير والتميلح في الوقت ذاته ، وصراحة أني أعد الجمع بين ذلك عبقرية !

انزعجت جداً من رؤية مظاهر تراجع الدين المعروفة .. وأرجو أن لا يأتي أحد ويتهمني بالتدخل في النوايا .

أنا أتكلم عن أمور ظاهرة وبعيدة عن الخلاف الفقهي .

أفهم أن هناك خلافاً في كشف الوجه وغطاءه ..

أفهم أن هناك خلافاً في مفهوم الاختلاط ، مهما بلغ قوة الخلاف أو ضعفه .

ولكني لم أفهم بم يمكننا تفسير تخلي الكثير من النساء عن غطاء الشعر إما جزئياً أو كاملاً ،  ووضع مساحيق التجميل والعطور التي كانت تصلني لأنفي مخترقة نقابي .

لم أفهم لم تجاوز الأمر حد الاختلاط المحترم ليصل إلى الضحك الرقيع وهذا التميلح والتلامس أحياناً .

كنت أنظر إلى إحداهن وقد بدا من وجهها أكثر مما خفي ، لأنها كانت ( منقبة )!

الحق أن فمها فقط هو الذي كان مغطى !!

كانت تضحك مع مجموعة من الرجال بصوت عال وتصورت معهم ، وأنا أحدث نفسي : لعله أخوها ، لعله قريبها ..

حتى رأيتها تتصور مع أحدهم وهي تربت على ظهره وكتفه !!!

لم أفهم السبب في أن الموسيقى والرقص غدا أمراً عادياً دالاً على الرقي والتحضر ، حيث أن  ايقاعات الموسيقى الغربية التي رقص عليها  بعض مقدمي العروض كانت تصلني من المسرح المجاور .

لم أفهم لم تغيرت المفاهيم بهذا الشكل السريع والمزعج ..

لم تعد المسألة خلافات فقهية ، إذ ليس كل خلاف له حظ من الاعتبار .

نحن نتكلم الآن في مسائل  دلت النصوص الشرعية الواضحة على تحريمها  ، فما بال الناس ؟

ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم ؟

هذه المشاهدات كانت كفيلة بإفساد استمتاعي بذلك اليوم .

لم أبع نسخاً كثيرة كما كنت أرجو ، ولكن أعتقد أن اللقاءات الصحفية والتلفزيونية والإذاعية التي أجريت معي ، كانت كافية للتعريف بكتابي في الأوساط المختلفة .. أضف إلى ذلك مقابلتي للعديد من المرضى والمتعافين واستماعي إلى شيء من تجاربهم جعلني أسترجع ذكرياتي الشخصية مع المرض ليلهج لساني بحمد الله على منّه عليّ وعليهم بالعافية .

يوم الخميس في التاسعة صباحا كانت مغامرتي المضحكة المحزنة وللمرة الثانية مع مطار الملك خالد  .

المطار الذي من “المفترض ” أن يكون مطار عاصمة البلد الذي ” يفترض ” أن يكون أغنى بلد في العالم !

جملة ركيكة هي الجملة السابقة أليس كذلك ؟

نعم .. ولكن صدقوني الوضع الركيك لا يمكنك أن تعبر عنه بجملة مستقيمة أبداً .

إذ حتى لو استقامت لفظاً ، فإنها لن تستقيم معنى .

ركبت الباص محوقلة ومسترجعة ، ومتذكرة من جديد خراطيم مطارات أوروبا وأمريكا قبل أكثر من 27 سنة ، وانتظرنا في الباص ما يقارب العشر دقائق ليمتلئ ، فانتهزت الفرصة لكتابة بعض التغريدات .

أغلق الباب وتحرك الباص ، وبعد 30 ثانية بالضبط توقف ..

رفعت رأسي لأرى أننا نقف أمام سلم الطائرة ..

نعم .. الطائرة تبعد عن باب المطار أقل من خمسين متراً .

يبدو أن الخطوط تحب أن تريح ركابها لأقصى درجة ..

أخذنا أماكننا ، ولا تزال الصور من حفل البارحة تتوارد على ذهني .. الجميلة منها والسيئة .

وبعد تأخير استمر أكثر من ثلث ساعة نظراً لازدحام المدرج بالطائرات المقلعة والهابطة ( هل يملكون مدرجاً واحداً فقط ؟ ) طارت الطائرة أخيراً ..

بعد ساعة لاحت لي الحرة التي تحيط بالمدينة ، فنبض خافقي بحب المدينة .

المدينة التي دعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد حبا ” .

تمتت شفتاي ودمعت عيناي :  اللهم اكتب لي فيها معيشة ووفاة ..

هذه مدينتي ، فمن له بمدينة مثل مدينتي ؟

Read Full Post »

اليوم فقط شعرت أن إحدى أكبر أمنياتي قد تحققت .

عندما صورت هذه الصورة كنت أشعر فعلاً بالفخر..

أنا أنتسب لهذا الرجل العظيم .. قد لا يعرفه الكثير الآن ، ولكن حسبي أني أعرفه .. أعرفه جيداً .

عندما كتبت كتابي ” الحياة الجديدة ، أيامي مع سرطان الثدي ” كنت قد عزمت على أن يكون اسمي فيه : هناء بنت لقمان يونس ، وليس هناء الحكيم كما يعرفني أكثر الناس .. لهذه اللحظة فقط ..

ابنة لقمان يونس ، الأديب الساخر ، تحذو حذوه ، وتكون أديبة ساخرة كذلك .

كنت أتمنى لو أني أرى وجهه وهو يستلم مني نسخة موقعة من كتابي ..

أعتقد أنه كان سيفرح للغاية ، وربما شعر بالفخر .

دائماً يحب الآباء أن يحذو أبناءهم حذوهم في ميولهم وهواياتهم ، فكيف لو اكتسبوا بعضاً من إبداعاتهم ؟

بدأت حكايتي مع الورق منذ الصغر . كانت مكتبة والدي الكبيرة تستهويني .

تحوي الكثير من الكتب العربية والانجليزية بشتى الأشكال والأحجام .

وكثيراً ما التقطت لي صور وأنا في الثالثة ، أرتدي نظارة أبي وأقلب في إحدى كتبه وقد ارتسمت على وجهي تعابير الخطورة .

لا أنسى مجلدات قافلة الزيت الرائعة التي كانت تصدرها شركة أرامكو ، وموسوعة المعرفة ، حمراء الغلاف والتي كان يستهويني فيها صور لعملية استئصال الزائدة الدودية ، ومعجم تاج العروس الذي أعجبني اسمه ولكني لم أكن أفهم أين التاج ( في الموضوع ) فأنا لا أرى إلا مجلدات ، لا تيجان ولا عرائس !

لا أذكر أشياء كثيرة عن أبي ، فقد توفي وأنا في العاشرة تقريباً ، ولكني أذكر حبه لثلاث أشياء : الشطرنج ، وتدخين الغليون والقراءة .

أما القراءة ، فهذا شأن الأدباء ، وهو رحمه الله كان مديراً لفرع وزارة الإعلام في الدمام ، وكاتباً في جريدة اليوم ، ولعله كتب أيضاً في البلاد وعكاظ .

وأما الشطرنج فقد كان – غفر الله له – ينصب رقعته أمام فراشه ، ويلعب مع نفسه إن لم يجد رفيقاً مواتياً ، ويدوّن بخطه الأنيق خطوات كل لعبة برموز تبدو لمن لا يعرفها كاللغة الفينيقية.
ولعله رأى عزوف أخواني عن اتخاذ هذه اللعبة هواية كما فعل ، ورأى مني حباً في التقرب إليه والتأسي بما يفعل ابتغاء مرضاته ، فأخذ يعلمني هذه اللغة حتى صرت أتمكن من اللعب ( مع نفسي ) بمساعدة هذه الخطوات .

وأما الغليون فكنت أراقبه وهو يحشوه على مهل ، وقد يقطع ذلك ليقوم بخطوة في لعبة الشطرنج ، ثم يكمل حشوه وقد ارتسمت على وجهه علامات التفكير العميق .

هل أفشي سراً إذا ما قلت أن ( نزعة اللقافة ) تحركت فيّ و حدتني إلى تجريب تدخين الغليون  ؟

انتهزت فرصة غيابه في العمل وانشغال أمي في أمور البيت ، واعتيادهم على جلوسي في غرفته لألعب الشطرنج ، وتناولت الغليون ..

 لكني بمجرد أن وضعته في فمي ، وقبل أن أشعله ، شعرت بقرف شديد من طعم التبغ الذي سرى للساني من مبسم الغليون ، فتركته وعدلت عن فكرتي وأنا أتعجب كيف يدخن الناس ؟

وعندما بلغت التاسعة قررت أن أقرض الشعر ، وأبلغته – رحمه الله – بذلك ، فشجعني ووهبني إحدى دفاتره الفاخرة التي كان يدون فيها خطوات لعبة الشطرنج .

كان دفتراً مستطيلاً ( إلى أعلى ) ، ذا غلاف جلدي فخم .

كتبت فيه بعض قصائد أشبه ما تكون بأناشيد أطفال .

لا أذكرها ، ولم أحتفظ بها للأسف .. ربما رغبة مني في نسيان تلك الحقبة (الي تفشّل).

ولكن هذا  ” البيت ” أذكره جيداً ، ربما لأنه أول بيت من أول قصيدة في الدفتر :

أتمنى أني لا أتمنى           فوق الجبل أحياناً أتثنى

يا سلام !

كتبت عن الدجاجة الحمراء المغرورة والدودة الصغيرة ، وكتبت عن كوكب الشرق أم كلثوم التي يحبها كل من يحب الزبيب، في محاولة خرقاء لإرضاء أبي الذي كان يحتفظ بكل أغانيها في اسطوانات عتيقة ، وربما كتبت أيضاً عن البيتلز وتفاحتهم الخضراء المرسومة على اسطواناتهم ..

 طبعاً لم يكن معروفاً في تلك الفترة حكم الموسيقى ، ولم أكتب تلك القصائد العصماء حباً في الموسيقى ، وإنما كان يهمني أن أكتب عن أي شيء يمكنني رسمه ، واسطوانات أم كلثوم والبيتلز المتوفرة بسخاء كانت من تلك الأمور .

كنت أكتب “القصيدة” وأذيل الصفحة برسمة تعبر عنها ، والمضحك في الأمر أني لم أحب يوماً الشعر ولا الرسم .

فإذا فرغت من قطعتي الفنية أهرع لأبي وأقرؤه إياها ، فيهز رأسه بإعجاب ويشجعني كثيراً ..

أزعم أنه كان يبذل جهداً كبيراً في تشجيعي لأن تلك القصائد بلغت حداً لا يطاق في السذاجة .

وكان دائماً يقول : كويسة ، لكن تحتاج إلى وزن ..

يا حبيبي يا بابا .. أذكر كلامه الآن وأقول : والله كانت تحتاج لنسف لا لوزن .

ولكن في تلك الفترة لم أكن أفهم من كلامه إلا أن آتي بميزان الخضرجي ، العتيق ، ذي الكفتين فأضع دفتري على إحدى كفتيه ولا أعرف ما المفروض أن يكون في الكفة الثانية ، ولكن أبي رحمه الله قال أنه يحتاج لوزن ، وأبي لا يكذب.

أجلس الآن وأفكر في تشجيع والدي لي على الكتابة ..

أكاد أقسم أن كتاباتي كانت سخيفة للغاية ، ولكنه لم يحبطني يوماً من الدهر ، وإنما كان ديدنه التشجيع والتوجيه .. أليس من العجيب أن النفس البشرية تهوى الانتقاد والسخرية وجلد الذات في الغالب ؟

من السهل جداً أن تسخر وتثبّط وتقتل روح الإبداع في قلب ابنك أو زوجك أو صديقك أو من لا تعرف ، فقط إشباعاً لنزعة سادية أو إرضاء لروح السخرية التي تغلي في قلبك  ، أما التشجيع فعسير عسير إلا على من يسره الله له .

كم منا يفكر في ما قد تودي إليه هذه السخرية من نتائج وخيمة قبل أن يصرف كلمته التي قد تكون قاتلة ؟

 شجعني أبي في الشعر ، ولكني لم أستسغه قط ، لا كتابة ولا قراءة .

فاتجهت إلى النثر .. الأسلوب الروائي بالذات .

كنت ماهرة في تحويل مواضيع التعبير المملة إلى قصص مكونة من ثلاث صفحات أو أكثر .. وكان اختبار التعبير هو الاختبار الوحيد الذي أكون فيه آخر من يخرج لانهماكي في صنع أقصوصة لموضوع عن الأمل ، أو الصدق أو الأم .

وحين بلغت سن المراهقة كان البروتوكول يقضي بأن ترتبط مراهقتي بكتابة القصص الرومانسية .

كل المراهقين عندهم رومانسياتٍ ما .. هذه طقوس المراهقين المعروفة ، وأنا لم أبرع في الشعر ، فلا بأس إذاً ببعض من الروايات الرومانسية على غرار روايات عبير ، ولكنها أحشم قليلاً .

أذكر جيداً أني في السادسة عشر عرضت إحدى رواياتي على الأديب عبد الله الجفري رحمه الله تعالى ، والذي كان صديقاً للوالد .

هؤلاء الأدباء يتميزون حقاً بسعة الصدر ، إذ لا أعرف كيف تمكن من قراءة أكثر من سبعين صفحة من الهراءات المستمرة ، والتعليق عليها بخطه ..

مرة أخرى .. التشجيع والثناء مع بعض التوجيهات اللازمة لكتابة أفضل .

وفي الجامعة اشتركت في مسابقة أدبية شملت القصة القصيرة والمقال والشعر ، فحُجب المركز الأول ، وحصلت على المركز الثاني ، وكانت فرحة غامرة ، إذ بدأت أشعر أخيراً بأني ( يجي مني ) .

ثم تركت الكتابة لفترة طويلة ، أو بالأحرى تغيرت النوعية إلى الأبحاث والكتابة الشرعية الجادة ، وحسبت أني قد فقدت الموهبة ، إلا من بعض الخواطر كنت أسطرها في وريقات بين الفينة والأخرى كلما عبثت بقلبي ” ثورة عاطفية ” ( كما كنت أسميها ) من فرح أو حزن أو غضب ..

أخبئها ( الوريقات لا الثورة بالطبع ) في قاع درجي لئلا يطلع عليها أحد .. أخرجها أحياناً ، وأقرؤها ، وأطمئن أني لا زال عندي بقايا من إبداع ، ثم أعيدها بحرص .

فلما أصبت بالسرطان ، كانت هذه الثورة العاطفية الكبرى التي اندلع بعدها سيل الكتابات المكبوتة في السنين الخالية .

ألا ترون أني لهذا أغثكم بتدويناتي الكثيرة ؟ لأني كنت محرومة كتابياً ، والآن قد نشطت من عقال .

وكلما قرأت تدوينة قديمة لي وأُعجبت ببعض التعبيرات أو التراكيب يستنير وجهي وأشعر بالدهشة أني من كتب هذه الكلمات الجميلة ، والتصاوير البديعة .

أكاد أقرأ ما يدور في نفوسكم ..

تقولون أن مادح نفسه كذاب ، أليس كذلك ؟

حسناً ، لا أظن أن هذا أمر مطرد ..

أحياناً يوقن المرء بنجابته في بعض المواطن وبراعته ، فلا أرى بأساً أن يدلل نفسه بثناء عابر يتشجع به ويستمر في العطاء.

صدقوني ، جميل هو الشعور بالإنجاز ، أو الإبداع أو الإحسان والإتقان ..

وجميل أكثر الشعور بجينات أبي الأدبية تجري في عروقي ، فتستخرج من قرائي كلمات الإعجاب والمدح التي تملأ قلبي حبوراً وسعادة.

أبي .. كم تمنيتك لو كنت معي وأنا أشهد ميلاد مستقبلي الأدبي ، تنظر إليّ بفخر ، فأبادل فخرك بفخر .. أني ابنتك أيها العظيم .

اللهم اغفر لأبي لقمان يونس وارحمه وارفع درجته مع المهديين ، آمين .

Read Full Post »

 في شهر ذي القعدة من عام 1430 هـــ تم اكتشافي لمرض السرطان .

هل أكذب إذا ما قلت أنها كانت فاجعة بالنسبة لي ؟ حسناً لن أكذب .. لم تكن فاجعة !

كنت متبنية نظرية ( هذا يحدث للآخرين فقط ) وبشدة .

تعرفون هذه النظرية ؟ علمني إياها الكاتب المبدع أحمد خالد توفيق .

كل المصائب لا تحدث لي أنا وإنما تحدث للآخرين فقط !

فكان اعتقادي حينما اكتشفت هذا الورم في ثديي أن هذا مجرد .. مجرد .. مجرد شيء ما وسيذهب ، لأني لا يمكن أن أُصاب بالسرطان فهذا يحدث لأم عبد العزيز وأم سعيد ( الكبار في السن ) أما أم خالد الشابة الأربعينية فلا !

بطبعي أحب الأحداث الجديدة ” المثيرة ” : أحب الولادة ، أحب جو الاختبارات ، أحب السفر ( بالتأكيد) ، فكان التشخيص المبدئي في مستشفى الملك فهد بالمدينة مثيراً ، تلاه حوادث مثيرة أخرى من السفر إلى الجدة وتلقي الفحوصات في مستشفى الملك خالد ( الحرس الوطني ) والاهتمام من الأهل والصديقات .

أحسست في تلك الفترة بحنين للإمساك بالقلم وكتابة كل هذه المشاعر الدفاقة التي انهالت علي ، وأنا التي تركت الكتابة رسمياً منذ سن التاسعة عشر ، إلا محاولات مختبئة أكتبها عندما تتأجج مشاعري في غضب أو حزن لأي سبب كان ؛ تنسكب في ” ثورة عاطفية ” – كما كنت أسميها – على الورق ثم أعود فألملمها وأجعلها حبيسة الأدراج لأجتر قراءتها حينما يجتاحني “مود الحزن ” .

لذا فقد قررت إنشاء مدونة أسميتها ” الحياة الجديدة ” ، كنت أكتب فيها يومياتي مع مشاعري ، مع الفحوصات ، مع أهلي وصديقاتي ، قصدت منها أن أفرغ طاقاتي الانفعالية وأسجل هذه اليوميات للتاريخ ولمن يود أن يعرف كيف يشعر مريض السرطان ..

تعرفون ، ليس من السهل أبداً أن تتقدم لمريض سرطان وتسأله بوجه بارد والفضول يكاد يقتلك : كيف تشعر وأنت مريض ، وربما تموت ؟

حسناً ، ها أنا ذا قدمت لك الفرصة في طبق اليكتروني !

مرت الأيام وأنا أكتب ، وكنت أشعر بسعادة غامرة حين أتلقى التعليقات من شتى أنحاء المملكة : من المدينة ، من الشرقية ، من ينبع ، من الرياض ومن أمريكا أحياناً .

لا أحصي كم من المرات كنت أدخل على المدونة فقط لأقرأ التعليقات المبهجة الكثيرة التي تمدني بالتشجيع والمواساة ، حتى بدأت في جلسات الكيماوي ، وانقطعت عن العالم تقريباً .

تناولت أربع جلسات من مركب AC والذي تسميه ” العارفات ” بالشأن : الأحمر ! نظراً للون الأحمر الذي يميز أحد الدوائين اللذين يتركب منهما . كانت السمة الغالبة على آثار هذا المركب : الغثيان !

اجمع كل الغثيان لجميع الحوامل اللواتي تعرفهم وضعه في شخص واحد وتخيل ما الذي يشعر به ؟

هل تصدق أني لا أزال أُصاب بالغثيان كلما دخلت مركز الأميرة نورة للأورام في مستشفى الحرس ؟ ويزيد الغثيان إذا ما شممت رائحة القهوة تنبعث من أحد المقاهي الصغيرة المتناثرة . بل هل تصدق أني أكتب هذه الأسطر الآن – وقد انقضت سنة ونصف منذ آخر جلسة كيماوي تلقيتها- والغثيان يداعب مؤخرة حلقي ، فقط لأجل السيرة ؟

ثم أجريت عملية استئصال الثدي المصاب وخمس وعشرين من الغدد الليمفاوية والتي اتضح إصابة اثنين منها بالمرض ، وحدثت أمور مضحكة وأخرى محزنة في هذه الفترة ، واشتدت حاجتي للكتابة .

كنت أشعر أني بحاجة لأكتب ويثني على ما أكتبه أحد .

كنت أشعر أني بحاجة إلى دعم قوي .

لم يعد يكفيني أن يحيطني أهلي وصديقاتي بالحب ، خاصة وأني كنت في جدة ، والكثير منهم في المدينة .

شعرت بأني أحتاج للمزيد من الاهتمام و الثناء ، فقد كنت أمر في هذه الآونة تماماً بمشاكل زوجية عاصفة .

أحسست أني أنسحب تدريجياً من الحياة . وعلى الرغم من نفسيتي المتفائلة إلا أن المشاكل إضافة إلى آثار الكيماوي المسببة للاكتئاب ، وحزن الاستئصال كلها كانت تشعرني أحياناً باليأس والرغبة في الموت .

وفي يوم حادثتني إحدى الصديقات الطبيبات ورجتني رجاء حاراً أن أكتب قصتي وأطعّمها ببعض المعلومات الطبية والتي استفدتها من تصفحي للمواقع الأمريكية المعتمدة بحثاً عن المعلومة الشافية .

عندئذ ، أضاءت لمبة فوق رأسي ورجعت إلى المدونة التي أغلقتها مؤقتاً فنسخت محتوياتها في ملف وورد ، ثم حذفتها آسفة متحسرة على كل التعليقات التي طارت أدراج الرياح ، ثم صرت أحاول استعادة الذكريات والمشاعر بل وحتى الروائح والطعوم وأدوّن كل ذلك حتى تعادلت الأزمنة ووصلت فعلياً وكتابياً إلى مرحلة جلسات الكيماوي الثانية التي تلت العملية من عقار  Taxotere المدمر . ولن أصف لكم ماذا كان يصنع لأن هذا ستجدونه في الكتاب ، وقد تجد بعضاً منه في تدوينة جداري قبل سنة (2).

كنت أدوّن مشاعري بدقة ، ومن يقرأ الكتاب سيلحظ ذلك ، وكنت كلما شعرت بانهيار نفسي وعاطفي وأحسست بفقدان الرغبة في الحياة فكرت في مدى استفادة الناس من هذا الكتاب لو قدر الله خروجه ، فكان يعطيني دفعة قوية إلى درجة أني كنت أدعو الله أن يعافيني لأرى بعيني أصداء الكتاب في المجتمع .

وفي إحدى أيام العلاج الإشعاعي لمحت شريطاً جميلاً بنفسجي اللون لُفّت به الهدية الجماعية التي قدمتها لي بنات أخواني في العيد فطرأت على ذهني فكرة صورة ، ونفذتها على الفور : بحثت عن شريط مشابه وردي وكليك كليك ، تمت الصورة ، واحتفظت بها على أن أستعملها فيما بعد كغلاف لكتابي المنتظر .

الآن كل شيء جاهز : الكتاب ، الغلاف ، وبقيت دار النشر ، فراجعنا مكتبة العبيكان إلا أنه كالعادة – اللهم بارك – كان مزدحماً وأرشدنا إلى الحصول على الفسح الإعلامي قبل أن نفعل أي شيء .

سمعت في سبيل الحصول  على الفسح القصص الطوال ، وأن بعضهم استغرق حصوله على الفسح الشهر والشهرين ، فتوكلت على الله وذهبت مع خالد إلى المكتب المخصص لذلك تشيعني دعوات أمي الحارة ( الدعوات هي الحارة وليست أمي ) أن يوفقني الله .

دخلنا وقابلنا المسؤول عن هذا الشأن فطلب منا تعبئة استمارة في الدور السفلي .

كاد أن يسقط في يدي ، إذ أن آثار الكيماوي لم تختف بعد ، والمشي متعب بعض الشيء ، أضف إلى ذلك أني كنت أرتدي حذاء ( يطقطق ) عند المشي ، ولم أستسغ فكرة النزول للدور السفلي والمشي بهذا الحذاء “المطقطق”  فيعرف كل من في المبنى أن ثمة امرأة ( متقصوعة ) تتمشى في الردهات ، فتجمدت في مكاني لثوان يبدو أنها كانت كافية لينتبه الرجل أن التي أمامه هي ” خالة ” وليست امرأة ” متقصوعة “( على الأقل عرفنا فائدة من وراء هذه الخلخلة ) .

 فقال : ” والا أقول لكم ، تعالوا هنا ” ، وأدخلنا إلى حجرة جانبية وأعطاني الاستمارة المطلوب تعبئتها ، وكما يقول الفرنسيون : voila  فوالا !

انتهيت من الأمر وطلبوا منا مراجعتهم بعد يومين .

يومان ؟ ألم يقل الناس : شهرين ؟ فقال الرجل : أليست مذكرات ؟ وتصفح مذكرة الكتاب سريعا ، وقال : مادام ليس فيها شيء ممنوع فلن تستغرق أكثر من يومين .

رجعت إلى البيت وأنا في فرح شديد ، وقبلت يدي أمي والتي كان دعاؤها ولا شك سبب تسهيل مهمتي .

دق جوالي بعد وصولي بعشر دقائق فإذا به ذاك الرجل المسؤول ، دمث الأخلاق يخبرني أن فسح الكتاب قد صدر وعليّ أن أرسل أحداً الآن ليستلمه .

احتجت أن أسأله مرتين عما قال لأتأكد من صحة ما سمعت .. جئتك قبل نصف ساعة ، وصدر الفسح أثناء رجوعي إلى البيت ؟

يا الله ، كم هو كريم ربنا . كم يحب إسعاد عباده ، ولكننا قلما ننظر إلى نعم الله ولا نفلح غالباً إلا في تصيد البلااءات والمحن .

ليتنا كنا متصيدين للنعم كذلك ، فقط لإحداث بعض التوازن في حياتنا .

وبعد ذلك تم التعاقد على دار وجوه – وهي الدار الوحيدة التي رد عليّ أحد موظفيها بالهاتف – على طباعة كتابي ، وللحق ألفيتهم حسني التعامل مع العملاء وعندهم الكثير من المرونة ، وأسعارهم معقولة .

والآن ، ها أنا ذا أحصد ثمار ما زرعته منذ ما يقارب السنتين ، وإنه لعمر الله حصاد طيب المذاق ، أسأل الله أن يهبني خيره ويكفيني شره .

أشكر كل من قرأ المدونة الأولى وشجعني ، ومن تابع هذه المدونة وتفاعل معي وأثنى علي ، فلكم الفضل بعد الله في تشجيعي على إقدامي على هذه الخطوة ، والتي ما ظننت أني سأقوم بها لو لم أتلق هذا الدعم .

أشكركم .. أشكركم ..

صفحة الكتاب في فيس بوك

يمكنكم الحصول على الكتاب بنسخته الالكترونية من متجر  سيبويه الجليس الرقمي

أسماء المنافذ التي يوجد فيها الكتاب

Read Full Post »

قبل خمس سنوات ذهبت إلى ينبع مع عائلتي الكبيرة لقضاء عيد الحج عند أخي .

 كنت وقتها في أيام حملي الأخيرة بابنتي شمس ، ولعل كونها السابعة من أولادي ، وحملي بها تم وأنا في الأربعين ساهما في جعله حملاً متعباً وشاقاً بالفعل . 

اغمقّ لوني ، وانتفخ جسدي كثيراً وكان المشي والجلوس والنوم صعباً ،وكنت أستدر عطف وشفقة كل من كان ينظر إلي.

كنت بلا مبالغة كرة تتدحرج بصعوبة ، إذا جلست لم تقم ، وإذا قامت جلست .

ولكني قضيت في ينبع مع أمي وأخوتي وبناتهم وأولادي أوقاتاً سعيدة للغاية .

حتى كان ليلة عيد الأضحى .. اغتسلت ولسبب ما – لعله أقدار الله – نظفت أذني بعود قطني ، وهي عملية أفعلها بين الحين والآخر .

فوجئت بانسداد أذني اليسرى تماماً .

غريبة ..

لم تنسد أذني طيلة أربعين سنة مضت بهذه الطريقة ، ما الذي جرى الآن ؟

حاولت إخراج ما سد أذني ولكني كأني كنت أزيد في حشر الكتلة الشمعية إلى الداخل أكثر وأكثر .

اشتريت قطرة لإذابة الشمع ، كنت أقطرها في أذني أربع مرات يومياً لعلها تسلّك الطريق ، ولا فائدة .

غالباً لا تجد في مستشفيات جدة أخصائيي أنف وأذن وحنجرة يعملون في العيد ، فكيف بينبع ؟

اضطررت أن أصبر ( الصبر الاضطراري ) حتى ينتهي العيد ويرجع الأطباء لدواماتهم .

كنت في تلك الفترة أعاني معاناة بائسة بهذا الانسداد المزعج .

أحياناً كنت أسمع صوت ابني الذي يتحدث أمامي يأتي من الخلف ، فأستدير فقط لأتأكد أنه ليس هناك .

زاد تعبي ودحرجتي وصرت أكاد أصلي فروضي جالسة ، ولازال أمامي ثلاثة أسابيع تنتظرني حتى يحين موعد ولادتي .

ثم ذاك الصداع .. ذاك الصداع كالمطارق تهوي على رأسي ، وأطرافي التي كان تنمل كثيراً .

ما دخل انسداد الإذن في الصداع والتنميل ؟

انتهى العيد أخيراً ورجعت مع أهلي لأرتاح قليلا ، فأنا جد متعبة ، وذهبت فوراً إلى استشاري الأنف والأذن والحنجرة .

دخلت أتمايل كالبطريق وأنا ألهث بشدة ، وجلست متهالكة على الكرسي الطبي .

نظر إلي الطبيب متفحصاً ، وأكاد أقرأ أفكاره وهو يحدث نفسه : ما هذه البطيخة المتدحرجة ؟

أشار بيده إلى الممرضة لتأخذ الحرارة والضغط ، فمددت إليها يدي متذمرة ..

ومنذ متى يطلب طبيب الأنف والأذن والحنجرة الضغط .. بالله عليك تعال ( لتشفط ) اللؤلؤة الشمعية التي سدت أذني وأخلت بتوازني ( وخلصنا ).

220/160 .

 شعرت بانزعاج من هذا الرقم ..

 ما هذا الضغط المرتفع ؟ ربما لأني مشيت .. ولكن 160؟

سألني الطبيب : هل عندك ضغط ؟

قلت : نعم ، وآخذ له دواء .

قام .. فحصني .. شفط الكرة الشمعية ( و يالها من راحة عظمى ) وفحص ضغطي ثانية ، بنفسه هذه المرة .

لازال الرقم عالياً .

انصرفت من عنده وهو يؤكد علي ّضرورة مراجعة طبيبتي على وجه السرعة ، لأن هذا الضغط مع الحمل لا يبشر بخير .

أختصر لكم المسافات ، وأخبركم أن الطبيبة حين علمت بهذا الضغط أصرت عليّ بالإسراع في الولادة ، فدخلت المستشفى وتلقيت ( الطلق الصناعي ) ولكني لم ألد .

طال الوقت ، وداهم طيبيتي القلق .

رأيتها من بين أجفاني المخدرة تنادي زوجي وتحدثه بشيء ما .

فكرت بذهني الضبابي : لابد أن هناك خطأ ما .

مرت دقائق ثم جاءتني الطبيبة ورفعت الكمامة عن أنفي ليصفو ذهني بعض الشيء وأخبرتني بأن هناك مشكلة .

الرحم لم يستجب للطلق الصناعي ، والضغط لا يزال في ارتفاع ، وثمة احتمال لإصابتي بمتلازمة HELLP الخطيرة ، والتي يمكن تلخيصها بأنها متلازمة تتسبب من وجود مرحلة ما قبل تسمم الحمل وتتميز بارتفاع ضغط الدم وارتفاع إنزيمات الكبد وانخفاض الصفائح الدموية ، وقد تؤدي إلى حدوث التشنجات والغيبوبة والنزيف ومن ثم … الموت !

الحل الوحيد : إخراج الطفل ..

الرحم لا يستجيب ، فكان لابد من إجراء عملية قيصرية لم أقرأ عنها شيئاً في فترة حملي ، لأني كما أخبرتكم من قبل : هذا يحدث للآخرين فقط .

ماذا ؟ لم أخبركم ؟ هممم . يبدو أن الأمر التبس علي وذكرت لكم شيئاً مما كتبته في كتابي .

لا بأس .. اعتبروها فقرة إعلانية عن كتابي ، وبعض ( النحنسة ) التي أحب أن أداعب بها متابعيّ في تويتر وانستغرام بين الحين والآخر .

أومأت لطبيبتي وقلت لها بصوت واهن : توكلي على الله .

وعلى الفور أجريت العملية وأشرقت شمسي على الحياة .

طيب يا هناء .. ماذا نستفيد من قصصك الطويلة التي تقارب الخمس صفحات ؟

الفكرة هي : كم من الأمور تحدث للمرء مما لا تعجبه ، فيظل متسخطاً ، جزوعاً ، بائساً ، لا يكاد يرى شيئاً من مباهج الحياة لأن هذا الأمر أو ذاك أصابه . وتمر الأيام فيرى نعمة الله الكبيرة من حدوث ذلك الأمر ، فيحمده ( إن كان مستحضراً لها كنعمة ) أو يمضي فارغ الرأس يحسب أن اكتشافه هذا صدفة ، وما درى أن هذا فضل الله .

قال ابن مسعود رضي الله عنه : إن العبد ليهمّ بالأمر من الأمارة والتجارة ، حتى إذا لم يكن بينه وبينه إلا ذراع نظر الله تعالى إليه فقال : اصرفوا عبدي عنه ، فإني إن مكنته منه أدخلته النار ، فيصرفه الله عنه ، فيظل العبد يتطير ويقول : سبقني فلان ، دهاني فلان ! وما هو إلا رحمة الله .

تعلمت من إصابتي بالسرطان أن أقدار الله كلها خير .

ألم يكن انسداد أذني خيراً لي لأضطر لمراجعة الطبيب فيكتشف ارتفاع ضغطي ويطلب مني استشارة طبيبتي التي تأمر بعملية قيصرية فورية وإلا تعرضت للموت ؟

كيف كنت سأعرف عن ضغطي أي شيء وأنا أتمتع بعادة سيئة للغاية في عدم زيارتي للأطباء إلا حين يستفحل الأمر .

واستفحال الأمر في مثل وضعي هو بدء الطلق .

ألم تسمع من قبل عمن تأخر عن رحلته ففاتته ، فعاد مبتئساً ليعلم فيما بعد بسقوط الطائرة ؟

ألم تنو من قبل أن تبيع ذهباً فائضاً عندك لارتفاع سعر الذهب ، ولكن لم يتسن لك ، فأحسست بالغبن والخسارة ، فقط لتجده بانتظارك حين تحتاجه فعلاً بعد عدة أشهر .

ألم يحدث أن وجدت بيتاً اعتبرته ( لُقطة ) تريد أن تنتقل إليه ، فحال بينك وبين ذلك أمر فحزنت ولعلك تسخطت أو قلت في حق الله ما لا ينبغي ، لتجد بعد ذلك بيتاً أفضل وأرخص وأحسن جيراناً ؟

ألم يعلمنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن من أصابته مصيبة فاسترجع وقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها ، فإن الله تعالى يعوضه خيراً .

هل علّمت نفسك أن تسترجع كلما أصابك ما لا تحب ، وتقنع نفسك أن أقدار الله كلها خير لئلا ترديك في حفر التسخط والأحزان ، ثم بعد ذلك قضاء الله نافذ فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط ؟

هل علمت نفسك : ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم ؟ فإن أصابك ما تكره أرجعت ذلك لحكمة لا تعلمها واطمئننت لحكمة الله ؟

إذا لم تعلم نفسك ذلك ، فأرجوك .. افعل ذلك الآن .

Read Full Post »

تحكي كتب التواريخ  قصة عجيبة لعمر بن الخطاب وقعت حينما كان يخطب ذات يوم على المنبر ، فصاح فجأة : يا سارية ، الجبل الجبل ..

وعلم المسلمون فيما بعد من سارية بن زنيم أنه كان على رأس سرية بنهاوند وأنهم قدحوصروا من قبل العدو فسمعوا صائحاً يصيح فيهم : يا سارية الجبل ، يا سارية الجبل ، فاعتصموا بالجبل وجعلوه خلفهم حتى انتصروا .

وردت هذه القصة في التفاسير و بعض كتب العقائد على أنها كرامة لعمر بن الخطاب رضي الله عنها، ولا أجد لها تفسيراً إلا ذلك .

وإذا نظرنا إلى عالمنا الآن نجد كثيراً من الحوادث الغريبة التي تحدث ولانجد لها تفسيراً .

هناك مفهوم في العلم الحديث يسمى بالتخاطر telepathy يندرج تحت خوارق الطبيعة ، حيث يستطيع شخصان منفصلان مكانياً أن يتخاطرا بذهنيهما رغم بعد المسافات .

وأمور مشابهة مما يمكن إدراجها في قائمة الخوارق ، ومن ذلك قول يعقوب عليه السلام لما فصلت العير التي تحمل قميص يوسف من مصر :” إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون ” .

وفي تويتر وضعت سؤالاً أحببت أن أتعرف على آراء المغردين عن رأيهم بفكرة التخاطر عن بعد .

وكالعادة : ( ما عندك أحد ) إلا من مغردتين فقط : فسرتها إحداهما بالحدس ، والأخرى بالترابط العاطفي القوي بين المتخاطرين .

وقد تلقفت الفكرة الروايات العلمية وأفلام الخيال العلمي لتجني منها كنوزاً تداعب خيالات الجمهور .

حسناً ..

أنا محظوظة لأن عندي من هذه القصص ولكنها مجانية ولا أحتاج أن أدفع فيها ريالاً واحداً .

في الحقيقة ..

أمي هي التي تدفع !

أخبرتكم من قبل أني الابنة الصغرى والوحيدة لأمي ، وقد توفي والدي رحمه الله وأنا في العاشرة .

كان تعلق أمي بي شديداً ( أراه الآن في تعلقي بشمس ) ، وكنت لا أكاد أفارقها .

حتى إذا ما تزوجت انتقلت مع زوجي إلى بلد أخرى وتركتها .

أعتقد أن المشكلة بدأت من هنا .

سنين طويلة مضت حتى عرفت بوجود مشكلة أصلاً .

اكتشفت أن أمي كانت تعاني آلام الطلق أثناء ولادتي لخالد ( تباً .. وأنا التي كنت أصر على بقائها معي في غرفة الولادة ) .

وفي السنتين الماضيتين ، بعد تشخيص مرض السرطان ظهر الأمر جلياً لكل ذي عينين .

أمي تشعر بما أشعر به ، ولو كنت في بلد آخر ، ولو لم أشتك .

لا أكاد أحصي عدد المرات التي اكتشفت أنها تعاني جزءاً من أي شيء أعانيه : نفسياً كان أو جسدياً .

بعدما أجريت عملية استئصال الثدي بأسبوع ، بدأت أشعر بآلام قوية في منطقة الإبط الأيسر وأعلى ذراعي حيث استؤصلت الغدد الليمفاوية كذلك .

كانت الآلام أشبه ما تكون بألم ( السلخة ) الحارقة .

كنت لا أطيق شيئاً على ذراعي ، ولو كان كم قميصي القطني الفضفاض .

كنت أشعر به وكأنه كم من شوك .

ولكني لم أنبس ببنت شفة .. فيكفي أمي ما تعانيه من رؤيتها لابنتها الوحيدة تصارع مرض السرطان ( القاتل ، الخبيث ، المخيف )  ، وما كان يبدو عليّ من تعب لم أتمكن من إخفائه جراء العملية .

عدة أيام مرت ، وشعرت أمي بألم ( سلخة ) قوي تحت ثديها ” الأيسر “!!

كان يزعجها جداً ويؤلمها .

تقول : تعالي يا هناء ، انظري هل ثمة ( سلخة ) ؟

ولكن يا أمي .. المكان أبيض كاللبن ، و الجلد ناعم ونظيف .

ماهذا الألم إذاً ؟

تناولت بعض العلاجات ولكن لا فائدة ..

استمر معها الألم حتى بعد أن تعافيت منه ، بعد شهر تقريباً .

من أجل ذلك اضطررت إلى قضاء أيام النقاهة من جرعات الكيماوي الثانية بعد العملية بعيداً عنها، إما في ينبع أو المدينة .

أمي تصاب بما أصاب به ..

وكانت جلسات التاكسوتير أشدها وطأة وأعظمها ألماً بسبب حقن رفع المناعة .

كنت أحاول أن أفتعل المرح وأرفع صوتي إذا ما حادثتني يومياً بالهاتف ، ولكن أنفاسي كانت تتقطع من الألم في أول ستة أيام من تناول الجرعة ، وكانت هي تشعر ( بكتمة ) لا تعرف لها سبباً.

وفي رمضان ، كنت أمر بظروف عائلية صعبة ، وكعادتي لا أظهر لها إلا الضحك والقوة ، لكن قلبها ما كان ليخطئها ..

فزادت عليها ( الكتمة ) حتى ذهبنا بها إلى الطوارئ بعد العيد .

أقول لأخواني : أمي ليس بها إلا العافية ..

أو إن شئتم : أمي ليس بها إلا حب ابنتها الزائد الذي يدفعها إلى الإحساس بكل ما تحسه .

كانوا يلومونني : لا تخبريها إذن بآلامك ..

فكانوا يزيدون آلامي ..

وهل يعقل أن أخبر بآلامي لتتألم هي ؟

كنت أبذل جهداً فائقاً لأمثل ..

كنت أعاني من آلام السرطان وعلاجاته ، ومن خوف من الألم لو مت  ، ومن مشاكلي العائلية  ولكني كنت على الرغم من ذلك لا أبدي لها إلا كل تجلد وشجاعة .

ما ذنبي أنا إن كانت هي فائقة الإحساس بي وبما يخبؤه قلبي ؟

تكرر الأمر بعد انتهائي من العلاج الإشعاعي حيث أصبت بحروق كحروق الشمس في المنطقة المعالَجة ، وعادت لها ( السلخة ) مرة ثانية .

هذه المرة كنت أعرف السبب .

وعرفته هي ..

سألتني دون أن أوحي لها بأي شيء : هناء ، هل تشعرين ( بالسلخة ) الحارقة ؟

تمعر قلبي – دون وجهي – وسألت : لماذا يا أمي ؟

فقالت : أشعر بذلك في الجهة  اليسرى ..

لقد عاد الألم القديم .

ضحكت رغماً عني وقلت : يا ماما .. ألم تحفظي الدرس بعد ؟ كل ما يصيبني فإنه يصيبك .

المشكلة أني أتعافى من الألم سريعاً ، في حين تظل هي تعاني منها فترة طويلة بعد ذلك .

آخر مغامراتي مع أمي كانت أثناء اختباراتي الفصل الماضي ، فكما تعلمون الطالبة في سن جدتي تدرس في الجامعة عن طريق التعليم عن بعد .

و(محسوبتكم ) إنسانة مولعة بال أ+ فكنت أذاكر كثيراً  يومياً .

حتى كان ذلك اليوم الذي أرهقت فيه جداً فأصبت بهبوط شديد ودوخة قوية وخفقان في القلب يكاد يكون مؤلماً .

كان الأمر مزعجاً لدرجة أني أحسست أني سأعاين ملائكة الموت في أي لحظة ..

تركت ما بيدي ، وصرت أتلو الشهادتين ( حتى لو فجأني الموت فإنه يكون آخر ما أ تكلم به هو الشهادتين ) !!

ثم أني لما رأيت ان الأمر طال ولم أمت بعد ، فكرت أنه ربما لن يكون موتاً وإنما تعباً طارئاً بسبب الإرهاق ، فقمت للراحة وقلبي يحدثني أن أمي سيصيبها ما أصابني ..

ونذرت أني سأكتب في ذلك تدوينة لو ثبت عندي تأثرها بما ألمّ بي .

 بعد أربعة أيام حين ذهبت إلى جدة لزيارة أمي إذا بها تشتكي أنها في يوم الأحد (!!) شعرت بنغزات مؤلمة في قلبها في العاشرة مساء (!!) وأنها إلى الآن تشتكي من الخفقان .

ضحكت – وإن شر البلية ما يضحك -وأخبرتها بما حدث ، ثم قلت : لكني يا ماما كويسة الآن..

يعني بإمكانك أن تتعافي ..

ولكن ماما لم تكن لتتعافى مباشرة مما قد يصيبني ..

وهاهي تدوينة اليوم بين أيديكم ..

وفاءً للنذر الذي عقدته ..

أحكي لكم عن قصة من غرائب القصص ..

وأشكو إليكم خوفي على أمي ..

يعني الواحد ما يقدر يمرض بسلام ؟

Read Full Post »

هناك ثمة احتمال شبه قوي في أن أذهب لتناول إفطاري في الحرم ..

تداعت علي ذكريات العام الماضي .. في مثل هذا اليوم ، ليلة الثالث والعشرين حدثت معي قصة جميلة ، لم أكن لأنساها ،وكتبت عنها فصلاً في كتابي المرتقب أ، وأسميته ( الفصل لا الكتاب ) : صديقتي الفاتنة سارة !

اعذروني لإعادتها هنا ، ولكنها تبهجني حقاً ، ولعلها تبهجكم .

اليوم الأربعاء وقد دخلت العشر الأواخر ..

 وأولادي صاروا يتناولون طعام الإفطار في الحرم مع ( السفرة ) ..

أتراني أستطيع أن أفطر في الحرم ؟

 كنت كلما أنتظر أذان المغرب أمام شاشة التلفاز ، وأشاهد الجموع الغفيرة وهي تتناول إفطارها في تكافل وود ، وكلٌ يدعو الآخر لمشاركته ( الشريك ) أو ( الحيسة ) ، ويصبون القهوة لبعضهم البعض ، وأمام كل واحد منهم علبة اللبن الزبادي ، يأكل منه مع الدقة  بتلذذ ، و تهفو نفسي لمشاركتهم هذا الجو الرحيم..

كل يوم كنت أقول : الله .. نفسي أفطر في الحرم .

 وكل يوم كان خالد يقول : أوديكي بكرة ..

وكل يوم كنت أتراجع عن الفكرة لعدم رغبتي في الذهاب من الساعة الخامسة لأجد مكاناً ..

لم يكن بمقدوري أن أجلس على هيئة واحدة لأكثر من نصف ساعة ..

كما تعلمون .. رجلي اليمنى تؤلمني جداً..

لكن لما دخلت العشر الأواخر ، وازداد غياب أولادي بسبب ( السفرة ) و التهجد ، فكرت جدياً هذه المرة..

حادثت صديقتي سارة ، وأخبرتها برغبتي ، فتواعدنا ليلة الثالث والعشرين في مكان معين تفطر فيه مع بعض معارفها.

ويبدو أن خطئي الأكبر كان خروجي من البيت في السادسة إلا ربعاً ..

 لما وصلنا إلى الحرم ، كانت مواقف السيارات السفلية قد أُغلقت لامتلائها ، والشوارع مزدحمة بالناس وهم يتجهون إلى الحرم ومعهم في أيديهم زواداتهم ..

كان خالد يبحث جاهداً عن مدخل من هنا وهناك يقربنا إلى الحرم حتى لا أضطر إلى المشي لمسافة طويلة، وأنا أراقب الناس ، مبهورة ، تتلاحق أنفاسي من الإثارة ..

 أخيراً بعد انتظار طال سأفطر في الحرم . حيثما نظرت كانت الجموع الغفيرة تتجه إلى وجهة واحدة .. مسجد رسول الله r ، بأيديهم زجاجات الماء ، أو صناديق التمور، أو بضع حبات من ( الشريك ) .

ولكننا لا نكاد نجد طريقاً ..

 فهاتفت سارة وأخبرتها أن الشوارع مزدحمة جداً ، وقد لا أتمكن من الوصول، إلا أنها توسلت إلي أن أحاول جاهدة الاقتراب قدر الإمكان وأخذت تدعو لي أن أجد  منفذاً ، فكان إلحاحها علي بالمجيء دافعاً لأن أطلب من خالد المزيد من المحاولات ..

 كان خالد يرفض أن أنزل بعيداً رفضاً تاماً لعلمه بسرعة تعبي ، ولشدة الازدحام في هذه المنطقة، فكان يخشى علي من التعب ، ومن العدوى .

( خلاص ، أنزلي هنا يا أمي ، هذا أقرب ما أستطيعه ) ..

 بهذه الكلمات أيقظني خالد من شرود ذهني  ..

 نظرت ، فوجدت أننا نقف عند الباب الخلفي لإحدى الفنادق التي تطل على الحرم .

 نزلت بسرعة وعبرت من الباب الخلفي للباب الأمامي ، حيث  الساحة ..

ورأيت الجمال والجلال .. رأيت الحرم !!

يا الله ، كم أحب الحرم ..

كلما أمر به تهفو نفسي إليه ، وأقول : آآآه ، وحشني الحرم ..

أخيراً أنا هنا ؟ بعد غياب قرابة السبعة أشهر قبل  أول جلسة كيماوي ..

أحقاً أنا هنا لأفطر في الحرم .. أخيراً !!

الناس كنحل في خلية ..

الساحة تغص بالصائمين وقد افترشوا السفر بانتظار الأذان ..

رائحة رز ولحم تنبعث من زاوية، وفي أخرى رائحة ( الشريك) تسيل اللعاب ..

أين أنت يا سارة ؟

اتصلت عليها فحددت لي مكان اللقاء أمام بوابة قسم النساء بدون الأطفال..

شققت طريقي لها بين الزحام حتى إذا ما وجدتها ، كان علينا أن نشق طريقاً آخر لنصل إلى مكان سفرتها والتي كانت في أول صف في هذا المربع ، وفي أقصى اليمين ..

نظرت فإذا المكان ممتلئ لآخره .. وكما نقول ( ممتلئ حتى عينه ).. ولو شئت لقلت ( حتى شعره)..

كيف يا سارة بالله عليك تريدينا أن نصل إلى هناك ؟

ولكن بالإرادة والتصميم نفعل المستحيل ..

 صارت تمشي تقودني وأنا أمشي وراءها ألهث ..

 تعبت من المشي ..

وأحياناً أغطي أنفي وفمي باللثام ، وأحياناً أخرى أرفعه لأنه يكتم أنفاسي ، وذهني يحاول أن يبحث بين خلايا مخي التي صدئت بفعل الكيمو عن حديث ينهى عن تخطي الرقاب .. أكان الحديث في النهي عن تخطي الرقاب أثناء الصلاة أو تخطيها مطلقاً ؟

أحسست الآن بشعور طرزان ، فذاك كان يتنقل من شجرة إلى شجرة ، وأنا كنت أتبع سارة وأعبر السُفَر ، لم يكن مشياً في الواقع، كان يشبه القفز والمشي على الحبل .. أتخطى الرقاب وأحاول تفادي المشي على السفر التي يضع الناس عليها طعامهم ، أقف على رجل واحدة ، وأمد الثانية لأبعد ما أستطيعه في الجهة الأخرى من السفرة المعترضة ، وقد أفقد التوازن وأضطر إلى الاتكاء على إحدى النساء ..

  نطأ على أقدام البعض أحياناً ، وتصطدم أرجلنا ببعض الكؤوس أو صحون التمر فنقلبها أحياناً أخرى ، وأنا بين هذا وذاك لا أزال أردد : أوه أنا آسفة ، سامحوني ، طريق لو سمحتوا ، شوية شوية ..

وفي منتصف الطريق التفتت لي سارة وكأنها مستكشف عظيم منطلق في سبر أغوار طريق جديد يوصل إلى أرض الفردوس، فرأتني غارقة في لهاثي وأنا أحمل حقيبتي وكيساً به حذائي ..

سارة طبعاً خفيفة الوزن ، وأنا ما شاء الله جيدة !! ومعي حمل لا بأس به في يدي .. فمدت يدها والتقطت مني حملي غير مبالية ياحتجاجي ، وقالت لي مشفقة من العدوى : ” وددت يا هناء لو تلثمت”.. وأكملت سيرها حتى وصلنا أخيراً إلى المكان المنشود ، في أول صف في هذا المربع .

أجلستني سارة على كرسيها الوثير حتى ألتقط أنفاسي وأخذت تعد الإفطار وتعرف صديقاتها علي بقولها : هذه هناء صديقتي ، وهي تفطر في الحرم لأول مرة ..

فرحبن بي بحرارة وكلٌ تسارع لعرض ما عندها من طعام ، وسارة تقول : (نفك ريقنا أولاً ، ثم نأكل ) ..

قدمت لي ثلاث تمرات من عجوة المدينة الفاخرة ، وصبت لي كأس زمزم ( مبخّر ) من ثلاجتها، وجلسنا ندعو بعد أداء تحية المسجد ..

أذن المؤذن ونظرت سريعاً خلفي ، لأرى الجموع الغفيرة منهمكة في تناول الإفطار ..

يا الله .. كم أحب هذا المنظر ..

 المنظر الذي كان دوماً يشدني ، ها أنا فيه الآن .. يا فرحتي !!

أرى في سفرتي الأخوات وهن يصببن ماء زمزم من الثلاجات لبعضهن البعض ،  ثم القهوة من الدلال التي أتوا بها من المنزل ، في جو غاية في الروعة والبهاء .. وبين الحين والآخر تأتي امرأة أو فتاة من السفرة المجاورة تطلب ماء مثلجاً، أو تمراً معيناً والأخوات يبذلن ذلك بكل فرح وسرور..

أنظر وأتعجب ..

 لو كانت هذه أخلاقنا خارج الحرم وخارج رمضان ، هل بقي مسكين أو فقير ؟

أقيمت الصلاة ..

كان المسجد في لغط كبير ، إذ لا زال بعض الناس يأكلون ، ومنهم من كان ينظف منطقته من الفتات والعلب والكؤوس البلاستيكية ، فلما قرأ الإمام الفاتحة ، خفتت الأصوات بسرعة ملحوظة حتى لم  تعد تسمع إلا صوت سعلة هنا أو بكاء طفل هناك ..

ولما أمن الناس ، شعرت بالمسجد يرتج بالتأمين بهدير يبعث القشعريرة في النفس .

سبحان الله ، ما  أعظم الصلاة في تعليمها المسلم النظام .. لكن المشكلة لا تكمن في الشعائر وإنما تكمن في النفوس  التي تعجب من تناقضها ..

 فحين تراها غاية في التنظيم والترتيب في الصلاة ، تجدها هي هي غاية في الإهمال و الفوضى خارجها .

انتهت الصلاة ، ومدت السفر ثانية لتناول الطعام .

حسناً ، لم يكن طعاماً بالطريقة التي قد تخطر في بالك ..

 لم تكن ثمّ شوربة وسمبوسة ولقيمات وعصير توت ، فهذه إن شئتها تجدها بالخارج ، في الساحة مع الرز واللحوم والدجاج..

 لكن هنا لم يكن إلا الشريك والفتوت واللبن الزبادي و الدقة .

يرشون الدقة فوق اللبن الزبادي ثم يقلّبونها ويتناولونها إما بالملعقة ، أو بالشريك .

قالت سارة : ” تمكنت من إدخال اللبن الذي تحبينه لك ” ..

 وأخرجت من حقيبتها زجاجة لبن متوسطة ، وأردفت : “خسارة ، كنت أود أن أجد اللبن منزوع الدسم أو قليله ..كادت المفتشة التي عند الباب أن تأخذه مني ورفضت إدخاله في البداية ، لكني أخبرتها أن اللبن لصديقتي وهي مريضة ، وأن هذه أول مرة تفطر في الحرم ، فسمحت لي ” وضحكت ..

 ثم أخرجت صحناً بلاستيكياً مغلفاً فيه جبن القشقوان الأثيرة لدي ، وقالت :”  الحمد لله أنها لم تلحظ الجبن ” ..

وتناولت قطعة كبيرة من الفتوت ، قطعتها من المنتصف وحشتها بالجبن ونثرت عليها بسخاء من الدقة التي صنعتها والدتها وناولتني إياها ..

كم أسرتني سارة بمعروفها ..

 مثل سارة يُخدم ، فهي حاصلة على السند في القرآن الكريم من الشيخ إبراهيم الأخضر أحد أئمة الحرم النبوي القدماء ، وعندها خمس قراءات،  وكثير من النساء يقصدنها ليقرأن عليها بعضاً من الآيات فتصحح لهن قراءتهن ..

كما أنها من عائلة عريقة وثرية ، فمثلها في الحقيقة يُخدم ..

 وها هي الآن ، تؤثرني بمقعدها المريح وتجلس على الأرض أو على كرسي صغير ،  وتصنع لي طعامي ، وتناولني ما أحتاج من قبل أن أطلبه ، تقرأ نظراتي ، وتخمن ما أريد ..

وأنا غارقة في خجلي منها ، لا أحب أن أضايق أحداً بأن آخذ مكانه أو طعامه أو أتعبه معي ، ولكنها فعلت كل هذه الأمور ببساطة شديدة وعفوية محببة ، جعلتني أهتف أخيراً : سارة .. سأكتب اسمك في كتابي..

فضحكت، وقالت : إذن أكتبي ( ذهبت إلى الحرم مع صديقتي  الفاتنة سارة ) ..

 

Read Full Post »

كنت قد عزمت على أن أخصص لرمضان تدوينة واحدة لأني لا أعرف ما الذي يمكنني أن أكتب فيه أكثر من ذلك ، وعندما قرأت تعليق فاطم على التدوينة السابقة ، ذكرتني برمضاناتي الفريدة مع أولادي حينما كانوا صغاراً .

كان الثلاثة الكبار يساعدونني دائماً في المطبخ – في رمضان وغيره – حينما كنت أكثر شباباً وأطول نفساً في توجيههم و الصبر على أخطائهم ..

كانوا يساعدونني في تقشير البصل ودق الثوم ، وطقطقة المفرومة ، وتنقية الرز ( في العصور التي كان الرز يأتينا مسوساً أحياناً أو به حبات سمر لا تزال بأغلفتها ) وإحضار ما يلزمني من الثلاجة أو الدولاب ، ولما كان أحدهم يعترض بأن ذلك ليس هو نوع المساعدة التي كان يتخيلها ويأملها كنت أجيب بحكمة أن الطاهي المحترف ( الشيف) لا يصبح طاهياً محترفاً في يوم وليلة ، وإنما يبدأ من الصفر : من غسل الصحون وتقشير البطاطس ويظل يترقى حتى يبدأ في الطهي الفعلي وينتهي به المطاف ليصبح ( شيفاً ) ذا خمسة نجوم ..

لا أدري من أين أتيت بهذه المعلومات ومدى صحتها ..

ربما أكون قرأتها في إحدى قصص ميكي وبطوط ..

المهم أنك يا بني تحتاج للمرور بكل هذه المراحل لتصير (شيفاً ) ممتازاً .

وأكاد أقرأ أفكارهم وهم يتسائلون بحيرة : ومن قال أني أريد أن أصبح شيفاً ؟!

قبل رمضان بعشرة أيام تقريباً أقوم في كثير من الأحيان بإعداد كميات من السمبوسك وكنزها في الفريزر تحسباً للأيام التي أكون فيها متعبة ولا أتمكن من إعدادها .

كما أني أنتهز فرصة رخص البقدونس قبل رمضان والذي يقفز سعره 300% في أول يوم من رمضان .. فالحزمة التي تباع عادة بريال ، نشتريها في رمضان بثلاثة ريالات !

فإذا كانت الليلة الثلاثين من شعبان تسمرنا أمام التلفزيون ( هذا في أيام قنوات المجد والفلك ، أما قبل ذلك فكنا نتسمر أمام المذياع ) ونضطر للاستماع إلى كل البرامج حتى يخرج لنا المذيع الذي يعلن نبأ دخول رمضان ، فيتقافز صغاري فرحين ..

سبحان الله .. حتى الصغار يحبون هذا الشهر العجيب ، ولا أظنه بسبب الشوربة و السمبوسك ، فهذه أطعمة صرنا نعدها في غير رمضان .

لابد أن لرمضان سحراً خاصاً يفتن البشر .

حينها أعد السحور التقليدي والذي عودتنا عليه أمي مذ كنا صغاراً : الاسباجيتي وصلصة البولونيز. والسر في اختيار هذه الأكلة هو سهولة إعداد الصلصة من وقت مبكر ، فلو أعلن عن رمضان فلا نحتاج إلا إلى إعداد الاسباجيتي وتسخين الصلصة للسحور ، وأما لو أكملنا شعبان ثلاثين فبإمكاننا حفظ الصلصة في الثلاجة لغد .

وفي يوم رمضان فإنا نستيقظ جميعاً عند صلاة الظهر لأداء الصلاة ثم نقرأ شيئاً من القرآن قبل العصر ..

يمكنني بمزيد من الدقة أن أقول ( أقرأ ) شيئاً من القرآن ، وذلك لأن أولادي يتجهون مباشرة إلى محاريبهم الخاصة : أجهزة الكمبيوتر والتي تنوعت في بيتنا : ابتداء بكمبيوتر ( صخر ) ومروراً بالأحدث تقنية كالننتيندو بأنواعه وانتهاء بالإكس بوكس ، في حين أظل أذكرهم بفضل قراءة القرآن في رمضان وأجره ، وأحياناً إذا ما ثارت ثائرتي أمنعهم من اللعب حتى يقرؤوا جزءاً واحداً على الأقل .

ولايزال سهل مثار تندرنا جميعاً عليه حينما اعترف لنا أنه قرأ ما بين العصر والمغرب في أحد الأيام من سورة آل عمران إلى سورة يوسف !

أفهم أن يكون المرء سريع القراءة ، لكن يقرأ في ساعتين عشرة أجزاء ، فهذا ما يسمى بالقراءة النووية .. لو كان ثمة قراءة بالفعل .

طبعاً كل ذلك في الأيام التي كنا ننعم فيها بالإجازة الصيفية ، أما إذا وافق رمضان الدوام المدرسي فيكون عذاباً بحق ، إذ كنت أستيقظ مرة قبل الفجر لأدس في أفواه أولادي التمر وأجرعهم الماء وهم يبتلعون كل ذلك آلياً وأعينهم مغمضة بشدة في محاولة يائسة للإبقاء على الأحلام التي انتزعتهم منها .

ثم أوقظهم مرة ثانية ليقوموا فعلياً للذهاب إلى المسجد لصلاة الفجر ، ثم أوقظهم مرة ثالثة في الثامنة و النصف للذهاب إلى المدرسة ، ثم أستيقظ للمرة الأخيرة في الثانية عشر لبدء اليوم .

(وعلى طاري ) إيقاظ الأطفال ، فكم أضحك من أفعال بعض من أوقظهم لأداء الصلاة ، أو للذهاب إلى الحمام قبل أن يحدث مالا تحمد عقباه..

أحدهم حينما أوقظته نظر إلي بعينين فارغتين ثم مد يده وهمهم بكلمات سريعة : أديني أديني ، وكأنه يأخذ كتاباً من شخص مجهول ثم يقلب صفحات الكتاب ، فأنبهه مرة أخرى فينظر إلي ثانية ، ليعود إلى الوسادة من جديد .

وآخر أوقظه لصلاة الفجر فيقوم ويتجه على الحمام فيجده مغلقاً فيحتار قليلاً ، ثم لا يلبث – تحت وطأة النوم – أن ييمم وجهه شطر باب الحمام ويكبر ويصلي ركعة واحدة ويقفل راجعاً إلى فراشه !

قبل صلاة العصر يبدأ الإعداد لطعام الإفطار ..

وكل يوم تقريباً أفكر بنفس السؤال : أمكث في المطبخ كل هذا الوقت لإعداد إفطارنا والذي لا يتجاوز غالباً الشوربة والسمبوسك والفول ( أو سلطة التونة ) وما يماثل وجبة غداء عادية ( رز وإيدام) لزوجي الذي تربى على هذه النوعية من الإفطار الدسم وصنف واحد فقط من الحلويات أحياناً ، فكم تقضي النساء اللاتي يقمن بإعداد نوعين أو ثلاثة من المعجنات وأنواع الحلويات ونوعين من الشوربة للإفطار ، ثم طعاماً آخر للعشاء ، ثم السحور ؟

ماذا يمكننا تسمية هذا الإهدار للوقت في رمضان ؟

أشعر أن رمضان له عند الناس جاذبية خاصة في ما يتعلق بأنواع المأكولات ، والبرامج التلفزيونية .

كل يوم رمضاني أفتح إذاعة القرآن عصراً أثناء إعداد الإفطار لأستمتع بقراءة الشيخ محمد أيوب ، والذي صار بالنسبة لي علماً على رمضان ، حتى إذا ما سمعت قراءته في أي وقت آخر تلتقي نظراتي بنظرات فاطم ويبتسم قلبانا ثم تتداعى على ذهني فوراً بقية المكونات لأصنع في خيالي يوماً رمضانياً مجيداً : رائحة الشوربة على النار ، والبقدونس المقطع ، واللحم المفروم ( وهو يتطقطق ) ، وماء الزهر في طبق الحلوى ، وهدير المكيف ، والحلق الناشف ، و الطاقة التي بدأت تخور في نهاية اليوم .

وهنا يأتي دور الذكور في المساعدة : أناديهم لتعبئة دوارق المياه ، وشيء خاص بزمزم بعد تبخيره بالمستكة ، وثالث لمشروب الفيمتو الرمضاني الشهير ، ورابع حديث أضفناه مؤخراً لتانج البرتقال كل ذلك نرصه بحرص في الفريزر الكبير ليكون مثلجاً عند الإفطار ..

وبعد ذلك يأتي دور تعبئة التمر .. أنا أحب الصقعي أو سكري عنيزة الضخم لو توفر ، وأولادي يحبون السكري ( المرقد ) فنعبئ من النوعين لإرضاء كافة الأذواق .

وبين هذا وذاك يهربون لإكمال لعبة الكمبيوتر التي ( حطوها على ستارت ) دون إتمام عملهم فأناديهم مرة ثا*نية لإعطائهم محاضرة في إتقان العمل وأن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه..

في العصر الرمضاني يأتيني كل يوم الابن الصغير الذي بدأ للتو في التعود على الصيام مخبراً أنه بدأ منذ اللحظة في الصوم !!

ومنذ أن يخبرني هذا الولد بذلك إلى أن يؤذن المغرب ، يكون قد طلب مني ما لا يقل عن خمس مرات أن ( يكنسل ) صيام اليوم ويبدأ من غد ، فقط ليشرب فنجاناً من الفيمتو البارد ، أو تتناول ملعقة من مفرومة السمبوسك ، أو لأنه عطشان ، أو لأنها نسيت أن ( تتسحر ) قبل العصر !

وأظل في أخذ ورد مع هذا الصغير إلى أن يؤذن المغرب فأتنفس الصعداء أن : هذا يوم آخر انقضى.

في المساء يكون الجو الرمضاني الرهيب بسماع أصوات الأئمة في المساجد المجاورة تختلط في قراءات مختلفة في صلاة التراويح ، كثيرمنه اقراءات سريعة لا تستغرق أكثر من نصف ساعة حتى يبدؤوا بدعاء القنوت ، ويتخلل ذلك كله أصوات الألعاب النارية ( الطراطيع ) التي يبدأ موسمها في أواخر شهر شعبان ، وأصوات الأطفال وهم يتجمعون في الشارع أمام لعبة ( الفرفيرة ) التي نصبها أحدهم ليلعب أطفال الحي ومراهقوه ( وربما بعض الزائرين من الأحياء المجاورة ) مقابل مبلغ مالي بسيط ، أو أمام عربية لبيع البليلة والذرة .

رمضان هو الشهر الوحيد الذي لا أجد فيه غضاضة من إرسال ولدي الصغير الذي يبلغ العاشرة إلى البقالات المجاورة في الثانية عشر ليلاً ، إذ جميع الدكاكين مفتوحة ، وحركة الشارع مستمرة ، وكأن الوقت لا يزال الثامنة مساء .

كم من أشياء لا نجد لذتها ولا فرحتها إلا في رمضان .

يكفيني الشعور بالسلام النفسي ..

أتراه من إحساسي الشخصي بتصفيد الشياطين ؟

أم أن هناك سكينة فعلاً في رمضان ، تجعلنا نتمنى لو كانت أيامنا كلها رمضان ؟

رمضان اقترب ..

فاللهم سلمنا إلى رمضان وتسلمه منا ..

Read Full Post »

Older Posts »