Feeds:
المقالات
التعليقات

Posts Tagged ‘الحزن’

     تداعب خيالك فكرة الزواج الثاني (أو الثالث أو الرابع)؟ تراود ذهنك فرحة العرس وما يتبع ذلك من متع غامضة؟ أستطيع أن أفهم بعض مشاعرك وإن لم أكن ذكراً ..

لن أسألك لماذا تعدد في الحقيقة .. لن أسألك  هل أنت تعدد ترفاً، أو لحاجتك الفعلية للزواج. ربما لا تكفيك زوجة واحدة مثلاً إما بسبب طاقتك الجنسية القوية، أو لأنها ضعيفة البنية، أو لأن أعمالك كثيرة وسكرتيرة واحدة لا تكفي إضافة إلى كونها زوجة ومربية أطفال وطاهية وعشيقة وقد تكون موظفة أيضًا .. لن أسألك عن أسباب زواجك فليس من الحكمة السؤال عن كل شيء ، ومادمت قد حصلت على هذا الحق بموجب الشرع ابتلاءً لك ولزوجتك فلن نقول إلا ما يرضي الرب.

تعلم أنك بإقدامك على هذه الخطوة -التي أسأل الله أن يبارك لك فيها ويهبك خيرها ويكفيك شرها- ستفتح على نفسك أبواباً من النكد كنتَ غنياً عنه، ولكن الفكرة مسيطرة، و “أولاد الحلال” مشجعون، والنفس تواقة، ولابد من الإقدام، متمثلاً بقول الأول : “إذا هممت فبادر وإذا عزمت فثابر ، واعلم أنه لا يدرك المفاخر من رضي بالصف الآخر”، والكل لا يزال يتقدم للصفوف الأولى بتعدده، فلماذا ترضى أنت بالصف الآخر، فصبراً في مجال النكد صبراً, فما نيل كامل السعادة بمستطاع.

ولما كان العيش في نكد قطعة من عذاب كانت هذه الرسالة في نقاط، من أخت شفيقة، ولا يبعد أن تكون مجربة، تريد بها لك حياة أفضل وسعادة أقرب.. ليس هدفي إقناعك بصرف النظر عن التعدد فهذا أمر لا يخصني وقد يكون عندك هدف حقيقي ومقبول، وقد تكون ممن يحب تطبيق “السنّة”.. أقصد “بعض” أنواع السنة، ولكن هدفي – مادام أن هذا الأمر الجلل سيقع- أن أساعدك في تخطي هذه المرحلة بسلام ، فالسلام النفسي والحياة الطيبة هي ما ننشد .

 

1-              رسالتي موجهة إلى نوع معين من الأزواج ، وهو الذي أحب زوجته الأولى بصدق، أو على الأقل يكنّ لها وداداً فلا يريد أن يكسر لها خاطراً أو يجرح لها شعوراً .. أما ذاك الجلف القاسي، الذي يعتبر المرأة خادماً أو رقيقاً أو دابة يقضي بها حوائجه فليس هنا مكانه ولا كرامة.

2-              استصحب في رحلتك مع الزوجات فكرة أن الرجل والمرأة جنسان مختلفان، كالبر والشعير، كالتفاح والبرتقال.. هل ترى أن التفاح والبرتقال متماثلين؟ لن تستطيع أن تحكم على تفكير المرأة بنفس تفكيرك. فما تراه أنت منطقياً تراه هي سفهاً وغباء، وكلاكما محق. هذه القاعدة أساسية جداً في تبرير بعض رود أفعالها تجاه أفعالك، واستيعاب هذه القاعدة تجعلك أكثر تفهماً وبالتالي أكثر صبراً واحتواء، إذ من الأمور المهمة التي يجب أن تعرفها عن المرأة أنها إنسانة رقيقة ومحبة ومخلصة في العاطفة، وإذا آذاها من تحب فإنها تصفح وتغفر مراراً وتكراراً أملاً في صلاحه، حتى تصل إلى نقطة لا يمكنها بعد ذلك أن تصفح، وعندها يمكنها أن تنقلب تماماً لتكره وتحقد وتكيد، لو لم يردعها دين.

3-              قبل أن تقدم على هذه الخطوة الفاصلة في حياتكما فإنه من  الوجوب العيني عليك أن تتعلم أحكام التعدد لئلا تقع في أخطاء فادحة. وأعجب جداً من البعض الذين لا يرون في الزواج الثاني فرقاً عن الزواج الأول إلا في التسبيع للأبكار والتثليث للثيبات، فيقدمون عليه كالأغرار ليفاجؤوا بعد فترة أن الأمر أكبر من ذلك، ولو فقهوا حدث الرسول ﷺ “من كان له امرأتان فما إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل” لعلموا أن الأمر جلل ..

4-              إياك أن تطلب من زوجتك أن تبحث لك عن زوجة ثانية أو تخطبها لك .. أفهم أنك تحب زوجتك حباً قوياً وأنكما متفاهمان ومتوادان لدرجة قد تنسيك أنها زوجتك. ربما شعرتَ للحظات أنها أمك أو أختك الكبرى، أو صديقك النصوح ففضفضت وطلبت منها أن تساعدك في مساعيك.. المشكلة أنها ليست أمك ولا أختك لا صديقك المخلص بالفعل ، وطلبك يطعنها في مشاعرها بشدة، في أنوثتها، في حبها وإخلاصها. قد لا تُظهر لك انزعاجها، قد لا تظهر لك إحساسها بالإهانة والاحتقار.. كونها من جنس مختلف لن يجعلها تشعر بحسن نواياك أبداً. قد تسكت، وتستمع لفضفضتك، بل وتساعدك في بحثك، ولكنها ستختزن ذلك للمستقبل وتذلك بهذه الورقة أبد الدهر!

5-              ستمر زوجتك الأولى بآلام نفسية عظيمة منذ أن تعلم بخبر زواجك وسيؤدي ذلك إلى تغيرات كبيرة لم تكن تتخيلها. ستشعر بأنك طعنتها من الخلف، وهي التي لطالما أحسنت إليك. هل يحتاج أن أخبرك عن فضلها وإن قصّرَت؟ صبرت على ضيق أخلاقك وعلى قلة ذات اليد. لعلك كنت لازلت طالباً, لعلك كنت ذا مرتب ضعيف, لعلك كنت تسكن وإياها في حجرة عند أهلك، لطالما امتنعت عن أشياء كثيرة بسببك أو بسبب أولادك (هذا شيء لن يفهمه كثير من الأزواج الذين لا يثنيهم مرض أحد الأولاد أو الزوجة عن الخروج مع “العيال” للاستراحات أو حضور المباريات)، كفتك مؤنة النظر لأطفالك؛ تدريسهم والعناية بمتطلباتهم اليومية، و البحث عن تبريرات مقنعة تواجه بها اتهاماتهم لك بالتقصير، دافعت عن تقصيرك أمام أهلها – بل وربما أهلك أيضاً – وكافحت لتفي بجميع متطلباتك ، فلا يكوننّ حظها منك إذ ألحقتَ بها الأخرى الجحود والنكران. ستشعر بالخيانة والغدر وستنهار الدنيا أمامها. قد تغشاها سحابة كثيفة من الهم، قد تكثر من  البكاء، قد تفضل العزلة والإنطواء، وكيف لا وقد أصيبت في مقتل في حبيبها وعشيقها، ويتأكد هذا الأمر لو كانت الأولى ذات عشرة طويلة.. كن رجلاً وتحمل؛ ضاعف لها جرعة الحنان، خذها في إجازة خاصة قبل زواجك -أو بعده- لتشعرها أنها لازالت عروساً بنظرك، أفِض عليها بعضاً مما رزقك الله واختزنته لزواجك الثاني، اترك لها مزيداً من الحرية في الخروج والدخول مادمت تثق بعقلها وأخلاقها، أشعِرها أنها الأولى والأخيرة وأن زواجك الثاني لن يغيرك عليها، وكن عند قولك! اصبر واغمرها بالحنان، ثم اصبر واغمرها بالحنان ثم اصبر واغمرها بالحنان حتى تتمكن من التكيف مع الأمر، ولتعلمَ أنك أيضاً تحاول التوازن مع الوضع الجديد، وستجدها –إن كنت حكيماً- قد رجعت زوجتك الحبيبة التي كنت تعرفها، إلا من شطحة هنا وهناك بين الحين والآخر.

بعض الأزواج تلتبس عليه الأمور ويعتقد أنه لابد أن “يذبح بِسَّهُ” في البيتين سواء، والذي يحصل أنه يلين الطرف “للجديدة” ليكسب ودها ويغلظ “للقديمة” لتقف عند حدها، وبذلك يكون هدم بخراقته وسوء تقديره صرحاً كبيراً شيدته هي بعرق جبينها ودموع لياليها. وكان الأجدر والأولى به أن يزيد من إكرام الأولى التي لطالما أكرمته ورعت وداده، فليست الثانية التي لم يَخبِرها بعد بأوْلى من الأولى بالهدايا والنزول في الفنادق الفاخرة وتناول العشاء في المطاعم الراقية، ولا يتحجج بأولادها الذين ترعاهم ويعيقونه عن “الاستمتاع” بها، فهم أولاده ويحملون اسمه، ولا يدري لعل مرده إليها في يوم من الأيام، وإليها فقط!

6-              إياك والمقارنة بين الزوجتين سراً أو جهراً، فهذا ظلم للاثنين معاً. فإذا نقمت على الأولى قلة عنايتها بنفسها وانشغالها بأطفالك عن القيام بحقوقك فظلم وما على المحسنين من سبيل، وإذا نقمت على الثانية بطء فهمها وعدم معرفتها بما تحبه وتكرهه فظلم إذ لا زالت “جديدة” تجهلك، وصدقني أنهما تنقمان عليك طواماً ولكنهما ترعيان مشاعرك وتحترمان مقامك فلا يكوننّ هذا جزاءهما منك . انصح وذكّر باللطف وتحمل واصبر واعلم أن هذا من أمور القوامة، فالقائد الذي له النصيب الأكبر من الكعكة والذِكر الحسن عليه أن يتحمل أيضاً النصيب الأكبر من العمل وحمل الأعباء والسياسة الصائبة.

7-              قدّر للغيرة قدرها عند الزوجتين. بعض الرجال يطلب من الزوجتين الالتقاء ببعضهما والمخالطة، بل والسكن في بيت واحد أحياناً. أعجز أن أفهم مايدور في ذهن الرجل وهو يطلب من زوجتيه هذا الطلب. هل يقصد أنهما سيتحابان بذلك ويعتادان على بعضيهما؟ هل يريد أن يريح نفسه من تغيير مكان مبيته وحمامه يومياً؟ أين تطبيق السنّة الذي رفع رايته عندما أظهر نيته في التعدد؟ هل أسكن النبي ﷺ  زوجاته في بيت واحد وهم الذين كانوا في مجتمعٍ أَكَل وشرب وهضم فكرة التعدد؟ حينما تطلب من زوجتيك المخالطة فأنت تعيش في عالم من الأحلام السعيدة نسجته القصص التي انتشرت عن الزوجة الصالحة التي كانت تؤوي إليها أطفالها وأطفال “جارتها” لينعم “شهريارها” بالراحة في يومه عند الثانية، ثم تفعل الثانية الصالحة الشيء ذاته في يوم الأولى. ماذا عن الغيرة ؟ هل حسبت لها حساباً في أحلامك؟ الأولى تغار من الثانية و”تفترض” أن فيها كل المواصفات التي تفتقدها في نفسها : القد الحسن، خلوها من الأطفال المزعجين، الوقت الكافي لتتزين وتتثقف وتمارس هواياتها الشخصية، بل وربما تسافر مع الزوج لأنها “خالية”، والثانية تغار من الأولى التي تحفظ زوجها عن ظهر قلب، وتكفيها الإشارة لتفهم ما يريد. التي لا يزال زوجها يحبها ويقدمها علي الجميع، بل وربما أخطأ ونادى الثانية باسم الأولى، والأدهى أن يناديها باسم الأولى مرخمًا (اسم الدلع).

8-              لا تحكِ لزوجتك عما يحدث بينك وبين الأخرى. أكرر، هي ليست أمك ولا أختك ولا صديقك الصدوق، وقد تصدر منك كلمة تجرحها أو تضايقها دون أن تلقي لذلك كبير بال. فضلاً تذكر النقطة الثانية عن اختلاف الجنسين. قد تظن أنك تريد مشورتها، لكن دعني أخبرك، مهما بلغت ديانة المرأة فإنه ليس من الحكمة أن تستشيرها في أمر الزوجة الأخرى، إذ هي خصم، والغيرة جبلّة قتّالة، والموفق من يعصمه الله، وأنت لا تعلم هل ستكون زوجتك من أولئك الموفقين أو لا.. أنصحك ألا تقامر!

9-              لا تستمع إلى الكلام السيء الذي قد تصدره إحداهما عن الأخرى فهذا كلام أقران وكلام الأقران لا يُلتفت إليه ، والشيطان ينفث والغيرة تعصف .. كن رجلاً، واترك عنك ما تتكلمان به عن بعضهما البعض، بل كن رجلاً وتصدَّ بحزم لفعلهما وفي الوقت ذاته انظر في نفسك ما الذي دعاهما لهذا الكلام، لعلها كلمة ألقيتَها أشعلتَ بها نار الغيرة، ربما هدية خصصتَ بها إحداهما وعلمت بها الأخرى، ربما قرينات سوء، ربما ضعف تدين .. المهم ألا يترتب على هذا الكلام السيء تبعات في نفسك إلا البحث و التقصي عن السبب، ثم اتخاذ العلاج اللازم الحاسم .

10-         أخيراً، لا تحمل في نفسك عليّ إن كنت أغلظت لك القول، ولكنك الطرف الأقوى في هذه المعادلة، وما خصك الله به من فضل لابد أن يُحمل على محمل التكليف لا التشريف، فالشريف شريف بفعله لا بمنصبه.

Read Full Post »

الدنيا تدور بك، يلفك الشعور بالغدر والخيانة, تتهاوى أمام عينيك سنين حياتك وشبابك الضائع وعافيتك المهدرة، اغبرت أحلامك الوردية بحياة هانئة مع فارس الأحلام الذي – غالبا- ما ترجل عن فرسه ويكاد يمشي متكئاً على عكازه.. كل ذلك حين عرفتِ أو أخبرك هو أو وشى واشٍ – لا يهم- بأن زوجك تزوج ..

قد ينزل عليك برود ثلجي وقد تنهارين باكية، وقد يُغشى عليك.. تتفاوت ردود الأفعال، ولكنك بالتأكيد ستشعرين – ولو لوهلة- بأنك طُعنت من الخلف.. بأنك حائرة, خائفة, بأنك في صحراء وحيدة فريدة بعدما خذلك أقرب الناس إليك. عندها تتجلى أعراض الصدمة العاطفية، كلها أو بعضها: الإنكار و عدم التصديق في البداية، ثم الغضب والتهيج، ثم الشعور بالذنب وإلقاء اللائمة على النفس ثم الغرق في الحزن العميق واليأس، وقد يصل الأمر إلى القلق والخوف والرغبة في اعتزال الآخرين والاكتئاب.. ثم تأتي ثالثة الأثافي حين يبدأ “المخلصون والمخلصات” بإسداء “النصائح” المهلكة من ترك المنزل وطلب الطلاق و رمي الأولاد ومحاولة تذكر سيئاته لتكرهيه والتنكيد عليه بل وربما اللجوء للسحر … الخ

ولما كان العيش في نكد قطعة من عذاب كانت هذه الرسالة في نقاط، من أخت شفيقة، ولا يبعد أن تكون مجربة، تريد بها لك حياة أفضل وسعادة أقرب.. ليس هدفي إقناعك بأهمية زواج زوجك فهذا أمر لا يخصني وقد لا يكون زواجه لسبب مهم أصلاً، ولكن هدفي – مادام أن هذا الأمر المؤلم قد وقع- أن أساعدك في تخطي هذه المرحلة بسلام ، فالسلام النفسي والحياة الطيبة هي ما ننشد.

1-      ضعي في اعتبارك أن رسالتي هذه لا تشمل كل من تزوج عليها زوجها ، وإنما تختص بمن تزوج عليها زوجها وهو يحبها وهي لا تريد أن تفارقه ، فلا يدخل فيها من أراد التزوج هروباً من زوجته أو كرهاً لها أو تخلصاً منها ، أو من عافته نفسها فلا تريد معه بقاء .

2-       ما تشعرين به من مشاعر سلبية كلها حق ، ويحق لك ، فليس من السهل أن تعيشي مع شخص قد تكونين وهبت له كل حياتك ، وأخلصتِ له في العطاء “فيكافئك” بضرة “تضرك” في سعادتك وتقاسمك أيام زوجك وأمواله واهتماماته .. لك كل الحق في مشاعرك ، ولكن نصيحة مني ، لا تتمادي في هذه المشاعر .. أعط نفسك حقها في الغضب والاستياء والحزن دون أن تتلفظي بما يغضب الرب، لشهرين أو ثلاثة ثم حاولي أن تتوازني من جديد .. إذا أردتِ أن لا تعيشي في نكد ، فلابد أن ينبع ذلك من أعماقك وتكونين أنت طبيبة نفسك ، فتنتشلينها من أحزانها في الوقت المناسب وتضعينها على المسار الصحيح .. استعيني بالله، وتذكري حقيقة الحياة الدنيا وما جُبلت عليه من أكدار، واتخذي صديقة عاقلة لتنير لك الدرب إذا أظلم.. بعض الناس يهوون العيش في جو النكد والحزن ، ويعتبرون ذلك رومانسية ، يذكون أوارها بالتفرج على الصور القديمة والاستماع إلى الأغاني العاطفية ، وتذكر الذكريات السعيدة ، فتعلو التنهدات وتنسكب العبرات و… مهلاً مهلاً.. (ترى الرجّال تزوج بس ما مات).. وأكاد أسمع إحداكن تهتف من الخلف: ليته مات ولا تزوج!

3-   لماذا تزوج ؟  أنت – تقريبا- ممن قيل فيهم: كامل الأوصاف فتنّي! جميلة ولبقة، وطباخة ماهرة، ولماحة، وأنجبتِ له البنين والبنات، ولم تنقصي في حقه شيئاً، فلماذا تزوج؟ “فراغة” عين؟ غدر وخيانة؟ ينقصه شيء؟ ربما، وربما لا.. أياً كان السبب، فليس في الشرع ما ينص على وجوب وجود سبب قوي لإباحة تعدد الزواج للرجل، فهو مباح على الإطلاق مادام قادراً وعادلاً في النفقة والمبيت .. ولكن دعيني أسألك سؤالاً مماثلاً : لماذا أنجبتِ طفلك الثاني، والثالث والرابع ؟ لِم لم تكتفي بالأول ؟ هل إنجابك للبقية غدر وخيانة له؟ هل ضَعُف حبك للأول أم هو باقٍ على حاله؟ ألا تسمعين أن حب الأم الأعظم -غالباً- لبِكرها، وأن هذا الحب يصمد على مدى السنين مالم يحوّل بكرها مساره فيصبح عنيداً، سيء الطباع، متوحشاً.. واللبيب بالإشارة يفهم !

4-   ينبغي التنبه إلى حقيقة تغيب كثيراً عن أذهان الناس حين يتعامل الجنسان معاً، وهي اختلاف طبيعة الرجل عن طبيعة المرأة، فيظل كل جنس يعامل الجنس الآخر كما لو كان مثله في تفكيره وردود أفعاله وتفضيلاته، والحقيقة أن كل جنس يختلف في كثير من الأمور عن الجنس الآخر، ويجب أن يعي الطرفان هذا الأمر لتجنب المشاكل ، سواء كانت العلاقة علاقة زواج أو أخوة أو عمل.. لماذا تزوج؟ تزوج لحاجة في نفس الرجل من حب النساء وفرض السيطرة والهيمنة وحمل المسؤولية والقيادة .. أشياء لا تكاد تستوعبها النساء جيداً، لأن الطبائع تختلف.. المهم أن تحذفي عن رأسك فكرة الخيانة.. لا تنسي أن ثقافة المجتمع على تخوين من يفعل ذلك، مع اعتقاد حلّه له بموجب الشرع.. حلال ولكنه خائن.. تناقض، أليس كذلك؟

5-  تذكري أن الشيطان للإنسان بالمرصاد، وأن أحب ما يكون للشيطان افتراق الزوجين، فيحاول أن يوقع بينك وبين زوجك بالوسوسة لكليكما . أنظري معي لهذا السيناريو المحتمل: قد تلحظين أن الزوج يسيء التصرف أحياناً، فيتكلم بفظاظة أو يتصرف بجفاء أو يسيء التعامل فيبخل أو يقصر في واجباته وذلك منذ الأسابيع الأولى لزواجه، فيقع في نفسك أنه زهد فيك، أو أن الأخرى قد غيرته وسلبت لبه وأنسته إياك، فهنا يتحرك الشيطان ويوسوس لك ليحدث أحد أمرين: إما أن تسوء طباعك كنتيجة تلقائية للدفاع عن “ممتلكاتك”، أو يغشاك حزن قوي و همّ ثقيل فتكاد عيناك أن تفقد بريق الحياة.. لا أريد لأي من الأمرين أن يحدث.. لنغير بعض الشيء من طريقة تفكيرك في السيناريو السابق.. ماذا لو فكرتِ أن زوجك –وأكرر ، الزوج الذي تزوج وهو يحبك- ارتبك في هذا الوضع الجديد: امرأة جديدة يراها حين يستيقظ، رائحتها مختلفة، ضحكتها مختلفة، طبخها مختلف، غنجها وغضبها مختلف، عليه أن يعتاد الآن هذه الحياة الجديدة جداً بعدما اعتاد على حياته الأولى معك، ولاشك أن سيقع في خراقات كثيرة حتى يتوازن، كوني صبورة ولا تجعلي للشيطان عليك سبيلاً. سيحتاج إلى بعض من الوقت ليتوازن بينك والثانية، كما تحتاجين أنت للكثير من الوقت حتى تتوازني بين الطفل الأول والتالي!

6-   شبه قاعدة: الزوجة الأولى تحظى بميزات لا تكاد توجد في غيرها، فهي حبه الأول، أول من قبّل، وأول من جامع، صاحبها في شبابه، في صبوته، صفا لها وداده وهشت لها نفسه.. وكان قلبه خالياً من غيرها فتمكنت، ولو أتت له بعيال فقد حازت المكان الرفيع والحظوة العالية .. أين للثانية كل ذاك المجد؟ تزوجته الثانية وقلبه مشغول بحب الأولى التي تعرف ما يحب فتفعله وما يكره فتتجنبه، وعلى الثانية طريق طويل مليء بالصعاب لتستكشف مجاهيل هذا الزوج الجديد، وللأسف لن يتسنى لها ذلك كل يوم ، وإنما كل يومين!! هل علمتِ مقدار ما تتقدمينه عن الثانية المسكينة؟ ولكن احذري.. لاتغتري بهذا المجد إذ أنه سرعان ما يتهاوى أمام سوء أخلاقك وشراستك التي قد تلجئين إليها دفاعاً عن “ممتلكاتك”.. الحقيقة أنه ليس ملكاً لك ولا لها.. هو مِلك نفسه، وسوف يعذرك في البداية ولكن لا أعدك أن يستمر ذلك إن طال عليه الأمر، وسيبدأ بالانتباه إلى أن هناك أخرى تحاول جاهدة الوصول إلى المكانة الأولى في الحين الذي تتراجع فيه صاحب المكانة الأولى بسوء أخلاقها.

7-   لا  تجعلي زوجك محور حياتك التي عليه تدور.. نعم، هو جنتك ونارك في وجوب طاعته بالمعروف، ولكن من قال أنه يجب أن يكون مصدر سعادتك وتعاستك؟ هناك أمور أخرى غيره يجب أن تشغل بالك، وأولها وأحقها: نفسك.. لا تجعلي زواجه بالثانية يطفئ عليك سعادتك وثقتك بنفسك.. ابحثي عما يسعد خاطرك.. قد تجعلك هذه المحنة تكتشفين مواهب وقدرات ما عهدِتها في نفسك من قبل فالمحن تولّد المنح.. ابحثي عن المنحة في زواج زوجك: ستجدين وقتاً لممارسة هواياتك التي كادت أن تندثر، ستجدين وقتاً لمزيد من البر للوالدين، لمزيد من التثقف والاطلاع، لأعمال تطوعية تزيدك سعادة بمذاق الإنجاز الرائع.. بل ولو لم يكن في زواجه بأخرى إلا الفوز ببعض الراحة من الارتباطات الزوجية (التي تشتكين من كثرتها في العادة) لكفى( وأنت عارفة وأنا عارفة!!).. أقول: قد تكونين ممن يهوى مزاج الحزن والنكد فتصر على التذكير بأنها لا تريد هوايات ولا إنجازات، وإنما تريد زوجها لها فقط، عندها لا أملك إلا أن أقول لك: الله يعينك..

8-  مالم يشتكِ منك زوجك تقصيراً معيناً فكوني كما أنت.. لا تحاولي أن تلعبي دوراً ليس دورك أو تعيشي شخصية ليست لك معتقدة أن هذا التغيير سيجعله يزيد في حبك.. هو يحبك كما أنت فلا تغيري قفل الباب.. المفتاح الذي معه لبيتك يفتح القفل القديم لا الجديد..

9-  ارفضي مقابلة الزوجة الثانية على الأقل في السنة الأولى مهما حاول الزوج أن يقنعك.. هذه من خراقات بعض الأزواج، يجسبون أنهم بذلك يؤلفون بين قلبي الزوجتين وإنما هم يضرمون نار الغيرة ويفتحون لأنفسهم أبواب المشاكل. أذكرك ثانية بوسوسات الشيطان الذي سيجعلك ترين كل ما هو جميل فيها ويغض طرفك عن كل قبيح، في حين يفعل العكس معك .. ستنتبهين فجأة إلى كبر سنك(ولو كنتِ أصغر من زوجك بعشر سنوات) وإلى شعيراتك البيضاء و(كرشك) الصغيرة وربما ستنقمين على اسمك الذي لا يحوي نفس (الدلع) الذي يحويه اسمها.. سأفشي لك سراً.. سنك الكبيرة تمثل له العشرة الطويلة بينكما، وشعيراتك يراها صبراً على نزواته شاباً و نزقه كهلاً، وكرشك فمصدر أبنائه الذي يفخر بهم، أما اسمك فستضحكين لو علمتِ أنه سيظل يناديها باسمك أنت لفترة لا بأس بها من الزمن. المهم أن ترفضي مقابلتها مهما تعذر لك حتى تستردي ثقتك بنفسك وبمكانتك عنده، والأهم من ذلك أن تمتنعي عن اللقافة والتجسس على جواله لقراءة الرسائل بينهما أو الاطلاع على أوراقه الخاصة، فمن حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه، وقد تطلعين على ما يسوؤك فتظلين في نكد أنتِ في غنى عنه .

10-                     وأخيراً، إياك والنظر إليها على أنها عدوة.. لا أدعوك لاتخاذها صديقة ولكن لا تعاديها، فليس هناك ما يدعو إلى ذلك.. هي امرأة تبحث عن مصلحتها كما تبحثين أنت عن مصلحتك.. تريد أن يضمها زوج ويحنو عليها ابن.. ضعي نفسك مكانها ولا تخبريني أنك لو كنت مكانها لما قمت بهدم بيت من أجل سعادتك.. أرجوك دعينا من هذه المثاليات فأنا منذ البداية كنت صريحة معك ولم أ غشك! لا تعرفين لو كنت مكانها ماكنت ستفعلين!! أحسني إليها إن كانت تستحق الإحسان أما اللئام فليس لهم إلا التجاهل.. أحسني إليها وليكن تعاملك لها تعاملاً مع الله .. أحسني فلعل الله ينفعك بها أو بولدها يوماً من الدهر..

أما أنت أيها الزوج الذي تقرأ فرحاً بما خطه كيبوردي، لك تدوينة خاصة بك، فانتظرها !!

Read Full Post »

الحياةُ لوحاتٌ زيتية رُسمت على قماش فاخر ، أم أن اللوحات هي التي تحكي الحياة ؟ من هواياتي الأثيرة أن أفتح عينيّ جيداً ، وأتجول في معرض لوحات الحياة مع جزءٍ فضوليٍ من نفسي ، وأستمتع بشيء من التطفل و التخيل لأسبر أغوار النفوس البشرية . كم نرى من مشاهد ظاهرها يخفي كثيراً من حقيقتها .. بعض المظاهر خداعة ، وتحتاج منا لكثير من البصيرة لنقرأ ما بين ضربات الفرش ، فإذا فعلنا انقشعت عنا حُجبٌ ، وتكشفت لنا حقائق بإمكانها -إذا تدبرناها- أن تجعل حياتنا أكثر جمالاً .. يكفي بذلك أننا ننسى كثيراً من واقعنا المؤلم ، يكفي أننا نغرق في دقائق ممتعة من خيال لذيذ ، يكفي أننا قد نفلح في تلمّس بعض النعم التي غفلنا عنها .

بعد فضولي الذي طال النوافذ والستور المرخاة في تدوينتي الأولى ومن الفضول ما يُحمد والتي لاقت نجاحاً كبيراً بفضل الله ، فسيسعدني أن أطرح عليكم المزيد بطريقة مختلفة قليلاً ، فهلا مشيتم معي في هذا الممر من معرض لوحات “الحياة”، لأريكم بعض النماذج؟ ستحتاجون أولاً لإعمال شيء من فضولكم ، ولا تخافوا ، فإن بعضاً من الفضول لن يضر !

هذه لوحة تصور لي رجلاً ، يقود سيارة مهترئة وسط شارع مليء بالسيارات الفاخرة . ينظر إليها جزئي الفضولي فيقول : انظري إلى هذه السيارة “المقربعة” ، والمشكلة أن صاحبها يضحك .. كيف يمكن له أن يضحك وهو يقود شيئاً كهذا؟ لو كنت مكانه لأرخيت رأسي خجلاً وأنا أمر إلى جانب كل هذه المراكب النظيفة .. أتطلع إليه متفحصة.  بالفعل ، باب سيارته ساقط ، فهو يمسكه بيد ويقود سيارته باليد الأخرى، باب الراكب المجاور منبعج انبعاجاً قوياً ، وفي الخلف تراصّ خمسة أولاد بطريقة فنية ما ، ومع ذلك فصوت المذياع يصدح ، وضحكات الأطفال تغطي صوت المذياع ، وأكاد أسمع صوته يرد ساخراً : “لو رأيتِ الحادث الشنيع الذي بسببه اهترأت هذه السيارة وخرجتُ منه وأولادي سالمين بلا خدش واحد لعلمتِ أنه يحق لي أن أضحك وألا أتحسر بعد ذلك اليوم على ضياع أي شيء دنيوي. لقد عاينت الموت لثوانٍ ونجاني الله ، فعلى أي شيء آسف ، ومن أي شيء أخجل ؟ ولكن البشر غالباً ما يصابون بضعف شديد في البصيرة”!

وهنا لوحة تحكي طالباً في كلية الطب الخاصة ، يلبس ثياباً جيدة ويضع عطراً فاخراً ، يحضر محاضراته بكل جدية واجتهاد ، ويتكلم برقي وأدب .. أنظر إليه فيتساءل جزئي الفضولي: محترم جداً! وددت لو رأيت بيته! فأتخيل داراً فارهة ، كثيرة الحجرات ، عالية الأسقف ، تحيط بأسوارها أشجار جوز الهند، وتصطف في مرآبها بضع سيارات ثمينة ، وإلى جوار مسبحها الكبير يتمشى الجنائني وهو يرمق المياه الزرقاء ويتلمظ محدّثاً نفسه أن يرمي بنفسه في المياه الباردة لتنقذه من لهيب الصيف الرهيب ، وليطردوه بعد ذلك . يلتفت إليّ الفتى في الصورة فيبتسم ويقول : أخطأتِ في خيالك .. وأراني في مخيلتي بيته ؛ الحي بائس, شوارعه مليئة بالحفر الرطبة .. الجرذان تمشي إلى جانبك لتدلك إلى أي دار تريدها، وصناديق القمامة الكبيرة تؤوي عشرات القطط الضالة ذات الأعين العوراء أو الذيول المقطوعة . وقبل أن يعترض جزئي الفضولي، يرفع الفتى أصبعه ويقول : “لحظة ! أنا في هذه الكلية في منحة لتفوقي ، فلم أدفع ريالًا واحداً، أما هذه الثياب فقطع نظيفة تبرع لنا بها بعض المحسنين ، ومالي في كل هذا البذخ الذي تراه إلا العطر الذي وضعته .. وللمعلومية ، فإنه مقلد! هل تستكثر عليّ عطراً مقلداً لا أعرف متى سيصيبني بالأكزيما ؟ أما عن الأدب ، فمن قال أن الأدب ملازم للغنى ؟ ظننت الأمر واضحاً ، ولكن يبدو أن البشر غالباً ما يصابون بضعف شديد في البصيرة”!

انظروا إلى هذه اللوحة ، تصور مهرجان الزهور الذي يقام في مدينتي كل سنة . تدغدغ الألوان الجياشة مشاعري ، وأشعر بها تكسر برفق أشعة الشمس الصارمة المسلطة على رؤوسنا كالحراب. ألمح زوجين مسنين بعض الشيء من دولة آسيوية يتمشيان معاً. يقفان أمام كل مجموعة ليتحدثا برهة قبل أن يخرج الزوج آلة التصوير ليصور امرأته ؛ ارفعي يدك إلى خصرك ، أميلي برأسك ، تلثمي بالطرحة في غنج ، وهي تمتثل وتضحك في دلال ، ثم يمشيان معاً ليتوقفا ثانية فيصورها بكاميرا الآيباد هذه المرة متبعاً نفس الخطوات السابقة ، افعلي كذا وكذا .. وتساءل جزئي الفضولي : انظري إليه ، يصورها بكل آلة تصوير متاحة ، ولو أتيح له أن يحضر مثّالاً لأحضره وصنع لها تمثالاً .. هل يحبها بالفعل ، أم أنه يفعل ذلك لأنه لا خيار له غير ذلك ؟ التفت إليّ الزوج على وجهه مسحة غضب وخوف معاً ، وقبل أن يتكلم بكلمة لذت بالفرار ، وأنا أعنّف فضولي وأطالبه بالتفرج في صمت .

توقفت طويلاً أمام لوحة جُدل إطارها بألياف الصبر والحب. هاهو رجل في الخمسينيات ، يرتدي ثوبه الرمادي الرث، يمشي مثقلاً بأكياس متخمة بأطايب اشتراها للتو من البقالة ، وعائدٌ إلى داره القريبة . أتفرس في الأكياس بفضول فأرى عصائر وحلويات ، وفواكه الموسم وحليبَ الصغير . يدخل على أسرته مستجيراً بالله من حرارة الجو وينادي في تعب على أطفاله الذين يهرعون ليتلقفوا ما أتاهم به والفرحة تشع من وجوههم الصغيرة التي لم تتغضن بعد، تستنشق ابنته أحد الأكياس بنهم لتملأ رئتيها من رائحة الفاكهة الطازجة ويرتفع صوت أحدهم بلثغته المحببة : بابا ، زا اللاتِب ؟ فيومئ إليه بحب ويحضنه ويلثم فاه ثم يدس في فمه قطعة شوكولاتة صغيرة . أمشي في سعادة وأمان الدنيا يغمرني ، وحنان الأب يفيض عليّ من تلكم اللوحة ، وطعم الشوكولاتة لا يزال في فمي .

ماذا عن اللوحة المشرقة  في الركن؟ اقترب  لتراها! هاهي امرأة في أواسط الستينيات ، مات عنها زوجها منذ أمد ، وتزوج آخر أولادها قبل خمس سنوات وعاشت في وحدة مع خادمتها تنتظر إطلالة أولادها عليها يومياً حسب جدول مرتب. منذ أن غادر آخر أولادها المنزل كان أمامها أحد اختيارين : أن تؤمن بانتهاء مهمتها في الحياة وتستسلم لفكرة الموت والتلاشي ، أو أن تبدأ حياة جديدة . لحسن الحظ أنها اختارت الثاني . بدأت في ممارسة الرياضة  ، إذ الرياضة من أفضل الوسائل التي ترفع هرمون السعادة (دون أن ترفع الوزن كالشوكولاتة) وتحافظ -في الوقت ذاته- على قوة البدن ، وبالتالي على صفاء الذهن ، فكانت تمشي مع خادمتها يومياً في الشارع العام حيث تشعر بأمان أكثر من الأحياء المجاورة الممتلئة حُفراً وسوائل لا تعرف مصدرها ثم تعود إلى بيتها وتفتح النافذة وتمد ساقيها في أشعة الشمس التي تنتشر سريعاً على أرض الحجرة . تسلي نفسها بقراءة كتاب ، أو تفتح المذياع على برنامج الأسرة الصباحي وتقوم بتمارين التمدد التي رأتها في يوتيوب، وبعد أن تنهي وردها اليومي من القرآن تشرع في “ساعة التعلم” كما تحب أن تسميها حيث حمّلت لها ابنتها عدة تطبيقات تعليمية تحرك بها ذهنها وتقوي ذاكرتها ، وكان آخرها تعلم اللغة الإسبانية . تذكر عندما هتفت بها ابنتها : لماذا الإسبانية ؟ فقالت ضاحكة : لأن اليابانية صعبة . والحقيقة أنها تتقن الكلمات الأساسية من الانجليزية والتي لن تحتاج إلى غيرها ، ولكنها أرادت أن تثبت لنفسها بتعلمها الإسبانية أنها لا تزال تتمتع بذهن قوي متفتح .. المسألة كلها تدور حول إثبات النفس ، حول الشعور بالقوة والقدرة على البذل ، حول عدم اليأس والإحساس بالوهن الذي يميت قبل الموت ، لهذا قبلت التحدي غير المنطوق من قِبل أولادها وطالبت بالآيفون والآيباد وشاركت في تويتر وفيس بوك وانستغرام وهي تقول : من قال أن مثل هذه الأمور حكر على الشباب ؟  أعطونا فرصة أو اثنتين لنثبت لكم أننا نستطيع .. وفازت بالتحدي .. انصرفتُ عن هذه اللوحة وقد خُيل إليّ أن المرأة تبتسم لي وترفع إبهامها مشجعة وهي ترتدي حذاء الرياضة .

طيب ، هذه اللوحة .. هذان زوجان يستعدان للسفر إلى البعثة ويودعان أهليهما .. الزوج يسمع للمرة الثامنة عشر بعد المئة والألف التوصيات على زوجته ، من أمها وجدتها ، وخالتها وعمتها وامرأة أبيها وخالة عم جارتها ، فيبتسم بتصنع ويقول للمرة الثامنة عشر بعد المئة والألف : أكيد ، “سما” في عيوني ، لا توصي حريص الخ الخ الخ . ترفع “سما” بصرها إليه فتكاد تتلقف الضجر والملل بيدها وهما يتقافزان في عينيه، وتتعجب ، ما كانت تعهد في نفسها القدرة على قراءة لغة الأعين ، أم أن لغة الأعين سهلة وواضحة لكل ذي لب . وفي ذهنه يتعالى السخط .. كلهم يوصيني على “سما” ، حتى أمي وأخواتي ، لكن من يوصي “سما” عليّ ؟ أم أن الرجال لا بواكي لهم؟

ما رأيكم بهذه اللوحة الملونة بألوان الباستيل الجميلة ؟ هذا خالٌ شاب ، أو ربما يكون كبيراً بعض الشيء. تأتي أخته  من بلد زوجها بأبنائها لتقضي مع أهلها شهراً من عطلة الصيف . لم يسمح زوجها لها بالذهاب إلا شريطة أن تصطحب أبناءها معها ، حيث لا شيء إلا الملل .. ينبري هذا الخال فيحمل على عاتقه إسعاد أبناء أخته ، يلعب معهم ألعاب الكمبيوتر ، ويصيح معهم في حماس كلما أحرز أحدهم هدفاً ، يمشّيهم، يشتري لهم الحلوى ، يأخذهم معه إلى المسجد، يصطحبهم إلى محل الألعاب ليشتري لهم هدايا النجاح، أو إلى المكتبة ليبتاع لهم قصصاً جديدة ، حتى صار هذا الخال من أحب ما يكون في حياتهم . وتمر الأيام ويكبر الأطفال ليصيروا شباباً أو مراهقين ويكبر الخال، فلا تعود ألعاب الكمبيوتر تسليهم، ولا يعودون يهتمون بالمكتبات ولا دكاكين الألعاب، يقدمون مع والدتهم إلى بلدها وقد لا يقدمون ، يسلمون على الخال تسليم الغريب ويمضون ، قد يتذكرونه باتصال بين الحين والآخر وغالباً ما ينسون. فجأة صار هذا الخال مملاً، و”قديماً”. ما هذه المرارة في فم الخال ؟ ماهذه الصور الباهتة التي يراها في خياله لأطفال صغار نسوه وما نسيهم؟ ولا زال في العيد بالهدايا يذكرهم ؟ قد يكون خالاً أو عماً ، قد يكون جداً أو مثل ذلك من الإناث.. أغادر ، ويهتف فضولي رغماً عني وعنه:  “ما يستحوا”!

هذه اللوحة الأخيرة، تبدو وكأنها لوحة إعلانية لقرطاسية .. الله .. أحب القرطاسيات .. أتمشى فيها بشغف كما تتمشى إحداكن في محلات العطور والمكياج . رائحة الأوراق تسحرني كما تفعل بكم رائحة القهوة الغنية ، أحب الأقلام الخشبية الملونة ، أحب أشكال الصلصال والأعمال الفنية المزركشة ، أحب الدفاتر السلكية الكبيرة ذات الأغلفة الكرتونية المبهجة ، أحب هذا العالم باختصار . ومن  منا لا يحبه ؟ أقصد ، هناك البعض ممن لا يحبه . أقف عند المحاسب ويقف أمامي رجلٌ في الخمسينيات يرتدي ثوباً رمادياً رثاً، وثلاث بنات في الابتدائية يقفن إلى جواره في صمت ويتطلعن إليه في رجاء ، وتمسك إحداهن صغيراً فضولياً يمد يده القصيرة للأرفف العالية محاولاً اصطياد أي شيء .. يخيل إليّ أني رأيت هذا الرجل من قبل، ولكن أين؟  اصطفت أمامه كومة من طلبات المدارس : أستطيع أن أميّز الصلصال ، ومسدس الغراء ، وألواح الخشب الخفيفة ، ومريلة المطبخ ، ونوعين من الألوان ، وأشياء أخرى خفيت عليّ . رأيته يخرج محفظته ويعدّ “أمواله” ثم ينقد المحاسب الثمن : فكة رهيبة من عشرات وريالات ، ليس فيها ورقة واحدة لمئة كاملة .. أكاد أسمع تأوه قلبه المنفطر من هذا الغلاء وكثرة الطلبات . ويعلو صوت الصغير : بابا ، خلّث اللاتِب ؟ فيبتسم الأب في وهن ويحمله بيده ، ويناول بيده الأخرى الأكياس لبناته فيتلقفنها في سرور وحماس.. لعل هذا السرور هو ما يطفئ لهيب قلبه .. أخرج جوالي في عجلة وأنظر إلى التاريخ الهجري وأنا أبتعد عن اللوحة فأجده الخامس من الشهر!

والآن ، ماذا عنك ؟ هلا أخبرتني عن لوحات أعجبتك ؟

سأقوم بإهداء ثلاث نسخ موقعة من كتابي ” الحياة الجديدة ، أيامي مع سرطان الثدي ” لأفضل ثلاث تعليقات عشوائية تردني هنا في المدونة ، أو تويتر @hannooti   خلال الأسبوع الأول من إطلاق هذه التدوينة .. تابع التعليقات بين الحين والآخر ، قد يحالفك الحظ .

Read Full Post »

 لازالت بعض بقاياه هنا ..

قشور الفصفص ، أثر من عطر بولغاري ، صدى صوته وهو يصرخ ” ناندا” ، صور  التقطتها بآلة التصوير التي يمتلكها .

ولكنه ليس هنا ..

خرج بعدما جاءني إلى حجرتي ليودعني ..

ضممته إلى صدري ..

استنشقت عطره ومسحت على ظهره ..

غالبت دموعي ولكنها أبت إلا أن تنهمر .

كتمت شهقتي ولكنها أبت إلا أن تنفلت ..

بكيت ..وبكيت .. وبكيت ..

همس في أذني بصوت واجف : ادعي لي ..

وتملص من بين يديّ وأسرع يحمل حقيبته وغادر ..

غادر يسابق أحزاني أن تدركه ، ومخاوفه أن تتلبس به .

جريت إلى المطبخ لا أكاد أرى من بين دموعي المنهمرة ..

فتحت الثلاجة وأخرجت المهدئ : خبزاً وجبناً ..

خشيت أن أجرح نفسي بالسكين ..

قلبي أصابه خفقان قوي ، وعلى عينيّ غشاوة .

صوت باب حجرتهم يغلق بعنف .. هاهو عبد الله يعبر عن حزنه بطريقته الخاصة ..

في حين أطفئ أنا حزني بتناول سندوتش سريع ، يطفئ هو أساه بمغادرة شريكه في الحجرة لمدة 15 سنة باللعب بالكمبيوتر هرباً من البكاء والمشاعر السلبية الأليمة ..

هذا هو عبد الله كما عرفته منذ أيام مرضي .. يكره الوداع ويكره مشاعر الحزن .. أما ما في القلب فلا يعلمه إلا الله .

عدت إلى حجرتي ألوك شطيرة جبن بطعم الدموع والأسى ..

الخفقان يزداد قوة ، وقلبي لا يزال يعتصر ..

ندت مني آهة حرى وثالث أولادي يغادر عشي ..

هو الثاني خلال سنة واحدة ..

كم هو مقدار الألم أن تصطبح الأم برؤية أولادها السنين الطوال ، ولا تنام إلا بوجودهم ، صراخهم موسيقاها ، وعراكهم تسليتها .. ثم تفاجأ بأن عليهم أن يغادروا ..

قبل قليل أرسلت تغريدة في هاشتاق يوسفيات : ” ( وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف ) .. ثلاث كلمات فقط ، وفي القلب تناثرت مئات السطور تحكي لوعة وفقداً وألماً وأملاً .. لله در قلب الأب ” .

ولم أشأ أن أكتب ( والأم ) فدون أساها تتهاوى أعتى القلاع .

كم هائل من الأناشيد ستحمل لي رائحته كلما سمعتها .. الممشى الذي واظب على اصطحابي إليه ، سريره الفارغ ، وشمس التي ستأتيني غداً لتسألني عنه بلهجة باكية كما فعلت من قبل مع سهل .

الأغنية البغيضة لا تزال تحوم في ذهني كالذبابة اللزجة ..

أغنية البيتلز العتيقة عن الفتاة التي غادرت بيت أبويها .. ذلك البيت الذي عاشت فيه سنين طويلة ..

أغنية تراجيدية  تأبى إلا أن تزورني كلما غادر أحد أولادي البيت .

في البدء كان خالد ، ثم سهل مرتين ، والآن عبد الرحمن ..

في انستغرام وضعت هذه الصورة

وكتبت تحتها ذلك المقطع الملحاح :

He’s leaving home after living along for so many years ..

He’s leaving home .. Bye bye ..

تنهدت وهتف قلبي : يارب .. فرجك قريب وقاصدك ما يخيب ..

اللهم إني استودعتك ابني عبد الرحمن ، ومن قبله ابني سهل : دينهما وأمانتهما وخواتيم أعمالهما ..

اللهم احفظ أولادي من بين أيديهم ومن خلفهم ،  وعن ايمانهم وعن شمائلهم ، ومن فوقهم وأعوذ بعظمتك  اللهم أن يغتالوا من تحتهم ..

Read Full Post »

” أمي ! أنت اليوم مو طبيعية !”

هكذا ألح علي عبد الرحمن وعبد الله .. لا أبدو طبيعية اليوم !

لماذا يا ترى ؟ أنا كذلك أشعر أني متضايقة ، ولكن ما عساه يكون السبب ؟

هممم ، دعوني أفكر في كل ما حصل لي منذ أن استيقظت ..

حسنٌ . ترجمت تدوينة اليوم ، راجعت درس السند ، مشيت للحديقة المجاورة مع البنات ـ وأؤكد لكم أني استمتعت كثيراً ، أجبت على أسئلة اللقاء الانترنتي الذي أجراه معي نادي السرطان التطوعي بمناسبة صدور كتابي .

ما المشكلة إذن ؟

أهاا . أعتقد أني عرفت .

اتصل بي سهل اليوم وأخبرني أن موعد سفره إلى الولايات المتحدة سيكون بعد 20يوم تقريباً  لدراسة الماجستير .

تذكرون تلك التدوينة التي كتبتها في اليوم الذي غادر فيه بيتي لأول مرة ؟

كان اسمها : رحلة إلى عالم النسيان .

قلت فيها لعل خروجه هذا تمهيد من الرب الرحيم للبعثة ، وهاهي الأيام تمر ، وتمضي سبعة أشهر منذ أن غادر سهل البيت  .

في هذه الأشهر السبعة تعلمنا كيف نعيش بدون سهل ، رجل المهام الصعبة .

ما كنت أراه إلا كل 3 أسابيع مثلا ، ويحادثني بين الحين والآخر ، وهذا كل شيء .

الآن سيغادر البلد بأكملها ولن أراه إلا بعد سنة تقريباً .

هل تدركون كم هو صعب أن يغادر الابن البلاد ولا تراه أمه إلا بعد سنة ؟

لطالما أمضى أطفالي أيامهم عندي ، ولم يتركوني إلا بعد سن الجامعة في رحلات قصيرة جداً .

كنت دائماً أحب وجودهم معي على الرغم من الإزعاج الشديد الذي يسببونه لي ، ولكني معهم عرفت معنى : هم دمي ولحمي .

الآن دمي ولحمي سيتركني إلى بلد غريب وجو غريب ولغة غريبة .

أدرك أنه غدا رجلاً يستطيع الاعتماد على نفسه ، ولكن أين قرأت أن الرجل يظل طفلاً في عين أمه ؟

سفره بالنسبة لي كسفر شمس ، كلاهما سواء .

شمس الصغيرة تدخل حجرة الأولاد أحياناً وتنظر إلى سريره الفارغ وتقول بلهجة باكية : أمي ، وحشني سهل !

فأتجلد وأقول سنراه قريباً في جدة إن شاء الله .

الآن ، وبعدما يغادر ماذا عساني أن أقول لها ؟

طيب يا هناء ، لم أنت حزينة ؟

حزينة أنا لأني بشر ؛ أخاف على ابني وأفتقده ..

 أفتقد يوم أن كان صغيراً يلعب حولي ويلتصق بي .

أفتقد لثغته في حرف الراء ورقته .

أفتقد براءته المتناهية وأفكاره الجهنمية .

أفتقد مراهقته الهادئة إذ كان له من اسمه نصيب عظيم .

أفتقد بره بي و تحمله لثورات غضبي بدون أن ينبس بحرف .

هذا بلاء جديد ، ولاشك !

مرت به أمهات كثيرات وصبرن وعاد لهن أبناؤهن بالبشرى ، وهاهو اليوم دوري .

ثق يا بني أني لن أفتأ أدعو لك ان يوفقك الله ويحفظك من كل سوء ويردك لي سالماً غانماً .

اللهم رافع السموات بغير عمد ، أفرغ عليّ صبراً ورضني بقضائك ، واخلف لي خيراً .

Read Full Post »

ما رأيكم في الاستماع لبعض الهذيان اليوم ؟

تدوينة اليوم فيها بعض من مرح ، ومموهة بشيء من الكآبة الهنائية المعتادة ؟

فيها قبس من خواطر وذكريات وتأملات ( حكيمة ) ، فقط من باب التغيير في قراءة ما لا ينفع .

رجعت قبل قليل من ( بلاد اليماني ) .

لمن لا يعرف ، بلاد اليماني ليس كقولنا بلاد الواقواق ، أو بلاد عربستان ، وإنما لفظة بلاد تطلق في المدينة المنورة على المزارع الخاصة .

كانت أمسية جميلة وباردة قضيتها في بلاد اليماني مع مجموعة من الصديقات العزيزات ، تحيط بنا الشجيرات على شكل سور يحجزنا عن أعين الفضوليين بالخارج ..

 رائحة العشب تملأ المكان ، صوت أزيز الحشرات هنا وهناك ، والقمر المكتمل يطل علينا بحنان .

صورة رومانسية حالمة ، لولا القطط التي كانت تدفع بعض الفتيات الجالسات بوداعة إلى الصراخ المفاجئ ، فتلتفت إليهن الأمهات بانزعاج ، لأقول لهن بلا مبالاة :عادي عادي ، يا دبور ، يا بسة.

والدبور عادة يأتي في المدارس صباحاً ، إذاً سبب جلبة اليوم : بسة !

دعوني أقول لكم شيئاً عن نفسي .

أحب صديقاتي جداً ، وآنس بجلوسي معهن ، ولكني بعد تقدمي في السن وإصابتي بالسرطان صرت أمْيَل إلى أن أكون ذات طباع عجائزية نوعاً ما ..

صرت ( أنْدوِش ) إذا ما كان المكان مزدحماً بالناس!

فتراني صامتة لفترات طويلة ، لا أتكلم إلا إذا وُجه إليّ الحديث ، وأكتفي بالسماع .

أحياناً يأخذني خيالي بعيداً لرؤية مشهد أمامي أو سماع كلمة ، فأكون حاضرة بجسدي وعيناي تتابعان الحدث، لكن ذهني يبدأ بالسرحان .

الجلسة اليوم كانت على شرف صديقتنا أم عبد الله التي قدمت من كندا مؤخراً في إجازة مع ابنتها التي تدرس الماجستير هناك .

عند التلاقي كان ثم الكثير من الأحضان والقبلات ، وربما بعض الدموع .

هذه مجموعة من الصديقات اللاتي حصلن معاً على السند من الشيخ إبراهيم الأخضر أحد أئمة الحرم السابقين .

أنظر إليهن وهن يتعانقن بود ومحبة: كم من الذكريات جمعتهن ، وكم من المواقف أضحكتهن معاً وأبكتهن؟

الذكريات السعيدة ..

أحياناً في جو كهذا الجو الرومانسي تشعر أن الذكريات السعيدة تكون عبئاً عليك لأنها لا تعود .

بعد ولادتي لابنتي لطيفة ، كنت أقضي فترة النقاهة عند أمي ، وكانت تستضيف خالتيّ القادمتين من المنطقة الشرقية .

في يوم زارنا خالي الأكبر – رحمه الله – وقد ناهز الثمانين ليزورني ويسلم على أخواته الثلاث .

لا أنسى نظرته وهو يدير بصره في وجوههن ، ووجهه يتهلل بفرح .

لم يتكلم .. ولكنه ترك العنان لفيض مشاعر في التعبير .

ثم نظر إليّ وقال : أذكر هؤلاء حين كنّ صغاراً ، ذوات ضفائر .

ترى هل رأى الذكريات في قسماتهن ؟

هل استعاد رائحة عطف الأم وشموخ الأب ؟

هل تناهت إلى أسماعه الضحكات وصوت السواني وخرير المياه ؟

وهاهو الآن ينظر إلى نسوة ثلاث ، غطى الشعر الأبيض رؤوسهن ، وعلت التجاعيد وجوههن المتعبة .

سبحان الله .. كن صغاراً ذات يوم !

والآن ، تفعل أمي معي ذات الشيء .

تتأملني طويلاً .. وكثيراً ما تصطدم نظراتي بها فأجدها تنظر إلي .

وأفكر ، لعلها تحب أن تملأ عينيها من ناظري كما أفعل بشمسي .

نعم ، لا شك .. فأنا الصغرى  عند أمي ، كشمس عندي .

وبعد إصابتي بالسرطان ، زاد هذا الأمر جداً .

وكأنها تقلب في ذهنها ذكريات مضت حينما كنت صغيرة ، لا أزال أختبئ تحت جناحها .

حين كنت دلوعة الدار ، أجري هنا وهناك وطلباتي أوامر لا ترد ، ولا عجب فأنا البنت الوحيدة والصغرى .

كأني أسمعها تقول في ذهنها : بنتي ، حبة قلبي عندها سرطان ؟

لا يحتاج أن أصف لكم كم هو مرعب مرض السرطان .

يخيل إلي أن من أصيب به فإنه يشعر أنه بمثابة حكم عليه بالإعدام .

إذا قلت : فلان عنده سرطان فإنك تنتج شعوراً يقارب الشعور الناتج عن قولك : فلان يحتضر !

لا ، لن تستدرجوني لأتكلم بعض الشيء عن سرطاني ، فدونكم التدوينات السابقة والتي يمكنكم أن تجدوها تحت تصنيف ( ذكريات بطعم السرطان ) .

ولكن الذكريات في كثير من الأحيان تكون عبئاً ثقيلاً .

حين تفتقدها بشدة ولا تملك لها رجوعاً .

تشعر بها كيد حديدية تعتصر قلبك .

أوف ، ما هذا الحزن اليوم ؟

هل لاحظتم أن تدويناتي الأخيرة قد علتها صبغة كآبية ؟

لا أعرف ما السبب .

وهذا أمر مناف لشخصيتي الحقيقية تماماً .

ولكن يبدو أن الأمر كما أقول دائماً : أن النفس البشرية غالباً تميل إلى الحزن وهذا ما يفسر سر النجاحات الهائلة للقصص التراجيدية ، وتفوقها على القصص الكوميدية .

ولكني لعلي أفرحكم بشيء .

عندما نظرت إلى وجه القمر ، ورأيت استدارته وجماله وتمام نوره ، تذكرت الجنة .

وتذكرت الجملة التي لا أسأم من ترديدها ، خاصة إذا تكالبت عليّ الغموم : في الجنة تتحقق كل الأمنيات .. كل الأمنيات !

نعم هناك تستعاد الذكريات السعيدة ، وتشعر بنشوتها ، حقيقية هذه المرة .

هناك أجمع أفراد عائلتي لأتذاكر معهم المواقف والقفشات .

هناك أستمتع بقد مياس ، وأستعيد ما فقدته من أعضاء في عملية استئصال السرطان .

هناك أتيه خيلاء بشعر كثيف أسود وحواجب مرسومة بإتقان .

أتمدد على السرر المرفوعة وأتجاذب مع صديقاتي الحديث ، هذه المرة دون أن ( أندوش ) ولا يصيبني النعاس .

كل ذلك في الجنة ، حيث تتحقق الأمنيات .

استيقظت من خيالاتي على صراخ جديد وقطة أخرى تجري فزعة لا تلوي على شيء ..

فهززت كتفي بلا مبالاة وقلت  : عادي عادي ، يا دبور ، يا بسة !

Read Full Post »

 ريما نواوي ، فتاة عرفتها في تويتر .

مصابة بسرطان منتشر داهمها منذ عشر سنين حين كانت في الثامنة عشر .

إنسانة لم أر مثلها في تفاؤلها وحسن ظنها بالله . سافرت إلى الصين لتتلقى علاجاً جديداً .

عايشت قصتها عبر تويتر حيث كانت تكتب مشاعرها وانفعالاتها بأسلوب مرح تجعل الناس يتعجبون من جلدها ، بل وقد يتهمها البعض بالتظاهر .

طالت معاناة ريما في الأيام الماضية ، ولازالت تتألم مع أنها تتناول المورفين كمسكن حتى دخلت العناية المركزة ، وانقطعت تغريداتها المتميزة .

آخر تغريدة لها كانت منذ 13 يوماً ، وقالت : ” … رجفة .. كأنه كهربة 110 انشبكت في 220 …. أستغفر الله جسمي بينفض بقوة ….. يارب … يا رب!

في العاشرة وخمسين دقيقة من ليلة الجمعة أسلمت ريما الروح بعد أن نطقت بالشهادتين ، وبلا ألم .

ومنذ ذلك الوقت  تتدافعني مشاعر غريبة .

خليط من ضيق وبكاء وغبطة وفرح وخوف.

وللحق أمور كثيرة تكالبت عليّ  في الآونة الأخيرة ساعدت على تحفيز هذا الشعور بالحزن والضيق .

أتمنى لو أعدت أولادي صغاراً أجمعهم تحت جناحي ، كالدجاجة التي تلم بيضها تحتها وترقد عليها بحبور . خروج سهل من بيتي لازال يفت في عضدي . الاختبارات تقلقني بشدة ، فلا زال أمامي الكثير الكثير والوقت يتضايق . لا أعرف متى سيدخل كتابي المطبعة. أنا مريضة سرطان كذلك .. صحيح أنني متعافية بفضل الله ، ولكن خطر رجوع المرض يظل موجوداً دائماً مع كل نتوء أجده في أي مكان من جسمي ، وكل ألم أحسه في عظمي.

 و الآن ، هاهي ريما تموت !

تأثرت بشدة . وأحسست كم هي  مؤلمة الحياة ومملة .

أتذكر روحها المرحة ، وعينيها الضاحكتين في الحفل الذي أقيم لها يوم عودتها من الصين . أتذكر تفاؤلها وإحسان ظنها العجيب بالله . وأتذكر أني مريضة سرطان كذلك ، وتبدأ روحي في الانسحاب رويداً إلى عالم اليأس وفقدان الرغبة في الحياة ..

 ولماذا تعيشين ؟ هل بقي شيء جميل في الحياة تناضلين من أجله ؟

ترى كم تألمت ريما حتى فاضت روحها .. هل ستعانين من ذلك أيضاً ؟

هل تتخيلين أن يعود السرطان في مكان آخر .. تأخذين الكيماوي مرة ثانية ، وتعانين آلامه ومتاعبه ..

هل تتخيلين احتياجك للناس مرة أخرى .. وتركك لأولادك ..

هل تتخيلين أن أمك ستتعب  وقد يكون موتها في مرضك هذه المرة ..

وفي النهاية يكون الموت ،  وكما يقولون : بعد معاناة طويلة مع المرض .. هذا الذي يقولونه دائماً .

ولكن لحظة لحظة ..

لماذا عليّ في مثل هذه المواقف أن أؤدي دور الخائفة من عدوى الموت ؟

هل يفترض كمريضة سرطان أن أظل أتخيل نفسي مكان ريما– تشاؤماً – فأبكي وأتضايق ؟

مرضي مختلف تماماً عن مرضها ، ثم مهلاً .. ألست من يردد دائماً : ليس المرض ما يميت ، وإنما يميت انقضاء الأجل ؟

فما بالك إذن استسلمت الآن لهذه الأفكار السلبية ؟

أفهم أن يصعب على النفس فقدان شخص كنت تتواصل معه وإن كان هذا التواصل في عالم افتراضي .

أفهم أن يكون السرطان مرضاً مخوفاً ومقلقاً .

أفهم أنك تخافين يا هناء من ألم الموت .

ولكن هل هناك بروتوكولاً معيناً يقضي بأن من أصيب بالسرطان سيموت لا محالة ؟

ما لي أرى كيانك تزعزع وبنيانك النفسي يكاد ينهار ؟

أين إحسان الظن بالله ، وأين حسن التوكل عليه ؟

أم أنه كلام يقال في المحافل والمناسبات ليقول الناس : ما أجلدها ، ما أصبرها ، ما أحكمها!

أكاد أراها .. فترة زمنية سوداء ، مكدسة بالوجوم والأفكار السلبية كأنما أُقحمت في تفكيري إقحاماً بعد معرفتي بنبأ وفاة ريما .

غيوم رمادية كثيفة حجبت عني لوهلة ضياء  الشمس ودفئها في صقيع الظنون الفاسدة .

سبحان الله ، كيف يحب الإنسان الحزن مهما بلغ حداً طيباً في التفاؤل والإيجابية .

انظر إلى الأفلام والقصص الحزينة تجدها أكثرها رواجاً ، ويكاد أي حدث فيها يبكيك ، في حين أن من أصعب الأمور انتزاع الضحكة الصادقة من القلب .

لم نقتل أنفسنا قتلاً بطيئاً بكل التوقعات السيئة والإحباطات والتشاؤمات ، فلا حياة سعيدة عشنا ، ولا موتاً مريحاً جلبنا؟

لم نخفق دائماً ، مراراً وتكراراً في إحسان الظن بالله .

كل يوم أكتشف حقائق سيئة مشتركة بين البشر فأتعجب كيف بدأت ، ولم لا نعمل على تغييرها  .

نشترك جميعنا في جعل سوء الظن بالله هو الأصل .. لكن لماذا ؟

أليس ذلك بكسب أيدينا ؟

قلت لأحدهم مرة : لو لم يكن دليلاً على وجود الله إلا إجابته دعائي لكان كافياً لي . فقال بلا مبالاة : أنا مؤمن بوجود الله ، ولكن ما ذكرتِ كدليل لا يكفيني أنا إذ هو لا يستجيب دعائي !

طبعاً لا يستجيب يا مسكين ، لأنك تدعوه وأنت تشك في إجابته ، في حين أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : “ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة” .

أنت ظننت أن الله لن يستجيب غالباً ، فكان الله عند ظنك .. فخطأ من يكون ؟

كم يرينا الله من ألطافه ونعمه .. يكفي أن الأصل في حياتنا الصحة والرخاء والسعادة ، وما هذه الهموم و الغموم والأمراض إلا أمور طارئة ، فلماذا ننسى الأصل  .

يا هناء .. أليس من قولك أقدار الله كلها خير ؟

أليس من قولك كيف تريده أن يكون لك ؟ ( فضلا مراجعة تلك التدوينة )

ألم تملكي في يوم نظارات شمسية ماركة أبو ألف ؟ ( فضلا مراجعة تلك التدوينة ) .

ما الذي حصل .. ولماذا الاستسلام ؟

فيجيب صوت ضعيف آخذ في الاضمحلال : لأن مريض السرطان له نفسية خاصة ليست كباقي النفسيات .مريض السرطان يرعبه موت مريض سرطان آخر مهما بلغ من القوة والصلابة والتفاؤل .

عجباً .. وهل هذا التفكير القاتم سيغير من الأقدار شيئاً ؟

ثم ألم تؤمني مرة بأن ألطاف الله تنزل على العبد المبتلى حتى لا يكاد يرى بلاءه ؟

ألا تذكرين حين كان الناس يبكون حالما يعرفون بخبر مرضك ، في حين كنت تواسينهم في نفسك وكأنهم هم المرضى وأنت الصحيحة المعافاة ؟

لماذا تغفلين عن جانب اللطف ، وهو جانب – لعمر الله عظيم –

انظري إلى ماشطة ابنة فرعون المؤمنة ..  كانت تمشط سيدتها فوقع المشط من يدها فقالت : بسم الله , لتسألها السيدة بصلف وتكبر : أبي ؟ فتقول : بل ربي ورب أبيك : الله . فينمي الخبر إلى الطاغية فيأخذها ويرمي أولادها الخمسة واحداً تلو الآخر أمام ناظريها في قدر ملئت نحاساً مذاباً يغلي ..

أي ثبات ثبتت ، في حين نكاد نجن من هول الموقف .

ولكن العالم بأسماء الله تعالى وصفاته يتحقق له تجلي اسم الله اللطيف  في هذه الحادثة .

ألا يجمل بنا أن نظن الله تعالى أنزل على هذه المرأة الصابرة من الألطاف والرحمات وتثبيت الجنان ما غطى عين البلاء بحلل اللطف البهية .. لعلها كانت ترى أولادها يقذفون في نهر الحياة أو في جنان وارفة فسكنت واطمأنت .

ولكن من كان خارج البلاء لا يرى إلا البلاء .

أزيحي يا نفس الستائر الكثيفة وافتحي النوافذ ليدخل إليك الضياء الدافئ واستقبلي بصدرك وقلبك روح الحياة وجمالها من رب كريم لطيف ، استمتعي بما تبقى لك من عمر – طال أم قصر – فإذا جاء وعد الله فليكن عند حسن ظنك.

اللهم اغفر لريما وارحمها وأعل درجاتها في الفردوس الأعلى ، وأنزل على قلوبنا السكينة والثبات والرضا بأقدارك .

Read Full Post »

 

قرأت كلماتها في مدونتها الجميلة .

كلمات مشرقة عن الأم ، بعيداً عن  القيود المدرسية السخيفة التي تتحكم في كيفية كتابة عواطفك في مواضيع التعبير .

http://maryambantan.wordpress.com/2011/11/13/%D9%85%D9%88%D8%B6%D9%88%D8%B9-%D8%AA%D8%B9%D8%A8%D9%8A%D8%B1/

اثارت في نفسي أشجان الأم ، إذ كانت تتحدث بلسان الابنة .

وعدتها أن أعارض رسالتها لأمها برسالة إلى ولدي .

أجزم أن رسالتي ستكون بلسان كل الأمهات .

” ولدي حبيبي ، أياً كان اسمك ..

اقترب مني .. لأشمك ، لأضمك إلى صدري . لتعانق مخيلتي ذكريات أيام سعيدة مضت .

اقترب أكثر ..

لتلثم يدي يدك .. وتسافر عيناي إلى الوراء أزمنة ما ، فأراك كما أنت عندي : طفلاً صغيراً .

كأني أسمع ضحكاتك ترن بصخب في أرجاء المنزل .

كأني أشعر بدفء حضنك وأنا أريح رأسي عليه لتلعب بشعري كما علمتك منذ صغرك .. تذكر طبعاً كم أحب ذلك .

كأني بك وقد ملأت صدري زهواً وفخراً لاعتقادك أني أعلم من في الأرض ، وأن ليس ثمة أم تماثل أمك في الجمال و الثقافة والعلم والأناقة .

تذكر حين كنت أنظر إليك بشغف حتى تستحي ، وأقول لك : أحبك ، فتجيبني بصوتك الرقيق : وأنا كمان ؟

أنا أذكر ، لأني أفعل الشيء ذاته مع أختك الصغيرة فتكرر عين الكلمات والأفعال .

تذكر رسائل الشكر التي كنت تكتبها بخطك المبعثر وتغلف بها العيديات التي استلمتها  وتهديني إياها ؟

أنا أذكرها ، بل لا زلت أحتفظ بها إلى الآن في درج مكتبي ، فقط لأن خطك الطفولي يذكرني براءتك القديمة .

تذكر كيف كان فرحي بك يوم أن أتممت حفظ القرآن الكريم ؟

أنا أذكره .. إذ لا يتاح للمرء لبس تاج الوقار كل يوم ، وأنت يا حبيبي ألبستني ذاك التاج .

تذكر كيف كنا نتناقش الساعات الطويلة في أيام مراهقتك ؟

أنا أذكر .. كان نقاشنا ينتهي بعد ثلاث أو أربع ساعات وقد بح صوتي من كثرة الكلام وأرهقني النعاس .

هل اعترفت لك من قبل أننا بعد مشاجراتنا مؤخراً كنت أغلق على نفسي الباب – أي باب متاح – وأبكي ، ثم لا ألبث أن أكفكف دمعي إذ أتذكر أني هكذا فعلت بأمي ذات يوم .

أعلم أني جرحتك كثيراً .

أعلم أني أسأت إليك كثيراً بصراخ أو كلام عنيف .

أعلم أنه لا يشفع لي القول بأني فعلت ذلك خوفاً عليك .

هكذا يقولون في كتب التربية .

ولكني للحق .. فعلت ذلك خوفاً عليك !

كلما رأيتك تخطئ تتجلى أمام ناظري الساعات الطويلة التي أمضيتها في تعليمك الصواب والخطأ .

هذا كان يثير حنقي بالتأكيد ، فأنا أريدك أكمل أهل الأرض .

لعلي غفلت أنك كنت مراهقاً تحتاج إلى مساحة أرحب لتجول فيها بحرية .

لعلي كنت ساذجة إلى درجة ظننت معها أني سأظل حبيبتك مهما فعلتُ …. كما كنتُ في صغرك .

فإذا بطفلي الصغير ، الذي كان لا يفتأ يتحين الفرص ليلتصق بي ، أو ينام إلى جانبي على سريري ، أو يأخذ كفي ليضعها على خده ، أو يتكئ على فخذي وهو يتناول طعامه أو أو أو ، هاهو يكبر ، ويأخذ
بالابتعاد .

صرت تكثر الجلوس في حجرتك وحيداً مع جوالك أو كتابك أو خيالاتك ..

كم تمنيت لو كنت تستمتع بالجلوس معي ، أحادثك وتحادثني ، وتهديني متعة الشعور بأن لي ابناً قد كبر .

صرت تصرح بأن البيت ممل ومقرف .. وما في البيت إلا أوامري وتوجيهاتي ؟

صبراً بني صبراً .

إن هي إلا أيام وتمضي .. تسافر للدراسة ، أو تُعين في بلد ما للعمل ، أو تتزوج .

المهم سيأتي اليوم الذي تفارقني فيه .

ستكون أنت في قمة السعادة والشعور بالانعتاق ، وسأكون أنا كالشجرة التي بدأت تذبل .

أتقدم في السن ، ويضعف جسمي .. ( تذكر ذلك الجسم الذي كان يلعب معك ويحملك إذا مرضت )؟

ولعل بصري وسمعي يضعفان أيضاً ، فتتحدث ولا أسمعك ، وأطلب منك أن تعيد ، فتعيد بتبرم ، وتلتقط أذناي هذه النبرة البائسة .

أعلم أنك في السن الوقادة المتوثبة ، وأني أعيق انطلاقك .

أعلم أن عليّ أن أصبر كثيراً ..

أعلم أني أسدد الدين الذي عليّ لأمي .

وأعلم أن الله تعالى لطيف ودود .

سأصبر حتى تكبر ، وتغدو رجلاً حكيماً .

ستعرف حينها فضلي وترجع إلي .

ستعود لتستشيرني ، ولتلعب بشعري الأبيض ، ولتريح رأسك على فخذي المنهك وأداعب شعرك بيدي المعروقة .

ستمسك بيدي لتعبر بي الشارع ، وستفتح لي باب سيارتك ، وستقدمني على زوجتك وأولادك كما قدمتك من قبل على أمي ونفسي .

أنا أعلم أن كل ذلك سيتحقق ..

فقط أرجو أن أكون حية في ذلك الوقت . “

أمك المحبة

Read Full Post »

yv9nj.jpg

وقف مثقل الكاهل ، قد أرهقته السنون وهموم الملك والرعية .

متقطع الأنفاس هو ..

شاحب الوجه ، ذابل العينين .

في ظهره ألم ممض من عملية جراحية قبيل أسبوع أجريت .

لكن ألم القلب أكبر .

هاهو أخوه ، رفيق دربه وولي عهده ، ذو الضحكة المشرقة يعود إلى أرض الوطن بعد رحلة علاجية .

ولكن أي عود ؟

يعود محمولاً على الأكتاف وقد تلاشت ضحكته وسكن قلبه وخبا بريق عينيه .

ينظر إلى التابوت ملياً ..

وفي ذهنه تتوافد آلاف الصور ..

وفي عقله يدوي  صخب الأصوات ..

هل بكت عيناه ؟

لا أدري ..

لكن قلبه لاشك كان ينتحب ..

أحقاً لن أراك ثانية ؟

يا أخي !!

يا أخي !!

قم وتحدث إليّ ..

انظر هاهنا .. إلى عينيّ ..

دع صوتك الحبيب يسري إلى قلبي وأذنيّ ..

أحقاً رحلت ؟

يا أخي !!

كلمني !!

مابالك لا ترد عليّ !!

ولكن رويدك ..

هو لن يرد ..

قد مضى في طريق يسلكه كل يوم الآلاف لا يتكلمون !

يمسح دمع فؤاده بيد معروقة حزينة .

يبدوأنه فعلاً لن يرد !

يرفع أصبعه : اللهم اغفر له ..

اللهم ارحمه ..

اللهم جُد عليه بالدرجات العلى .

ببطء يستدير ..

يركب سيارته ويمضي ..

بعد أن ألقى عليه سلاماً ونظرة أخيرة ..

Read Full Post »

تحكي كتب التواريخ  قصة عجيبة لعمر بن الخطاب وقعت حينما كان يخطب ذات يوم على المنبر ، فصاح فجأة : يا سارية ، الجبل الجبل ..

وعلم المسلمون فيما بعد من سارية بن زنيم أنه كان على رأس سرية بنهاوند وأنهم قدحوصروا من قبل العدو فسمعوا صائحاً يصيح فيهم : يا سارية الجبل ، يا سارية الجبل ، فاعتصموا بالجبل وجعلوه خلفهم حتى انتصروا .

وردت هذه القصة في التفاسير و بعض كتب العقائد على أنها كرامة لعمر بن الخطاب رضي الله عنها، ولا أجد لها تفسيراً إلا ذلك .

وإذا نظرنا إلى عالمنا الآن نجد كثيراً من الحوادث الغريبة التي تحدث ولانجد لها تفسيراً .

هناك مفهوم في العلم الحديث يسمى بالتخاطر telepathy يندرج تحت خوارق الطبيعة ، حيث يستطيع شخصان منفصلان مكانياً أن يتخاطرا بذهنيهما رغم بعد المسافات .

وأمور مشابهة مما يمكن إدراجها في قائمة الخوارق ، ومن ذلك قول يعقوب عليه السلام لما فصلت العير التي تحمل قميص يوسف من مصر :” إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون ” .

وفي تويتر وضعت سؤالاً أحببت أن أتعرف على آراء المغردين عن رأيهم بفكرة التخاطر عن بعد .

وكالعادة : ( ما عندك أحد ) إلا من مغردتين فقط : فسرتها إحداهما بالحدس ، والأخرى بالترابط العاطفي القوي بين المتخاطرين .

وقد تلقفت الفكرة الروايات العلمية وأفلام الخيال العلمي لتجني منها كنوزاً تداعب خيالات الجمهور .

حسناً ..

أنا محظوظة لأن عندي من هذه القصص ولكنها مجانية ولا أحتاج أن أدفع فيها ريالاً واحداً .

في الحقيقة ..

أمي هي التي تدفع !

أخبرتكم من قبل أني الابنة الصغرى والوحيدة لأمي ، وقد توفي والدي رحمه الله وأنا في العاشرة .

كان تعلق أمي بي شديداً ( أراه الآن في تعلقي بشمس ) ، وكنت لا أكاد أفارقها .

حتى إذا ما تزوجت انتقلت مع زوجي إلى بلد أخرى وتركتها .

أعتقد أن المشكلة بدأت من هنا .

سنين طويلة مضت حتى عرفت بوجود مشكلة أصلاً .

اكتشفت أن أمي كانت تعاني آلام الطلق أثناء ولادتي لخالد ( تباً .. وأنا التي كنت أصر على بقائها معي في غرفة الولادة ) .

وفي السنتين الماضيتين ، بعد تشخيص مرض السرطان ظهر الأمر جلياً لكل ذي عينين .

أمي تشعر بما أشعر به ، ولو كنت في بلد آخر ، ولو لم أشتك .

لا أكاد أحصي عدد المرات التي اكتشفت أنها تعاني جزءاً من أي شيء أعانيه : نفسياً كان أو جسدياً .

بعدما أجريت عملية استئصال الثدي بأسبوع ، بدأت أشعر بآلام قوية في منطقة الإبط الأيسر وأعلى ذراعي حيث استؤصلت الغدد الليمفاوية كذلك .

كانت الآلام أشبه ما تكون بألم ( السلخة ) الحارقة .

كنت لا أطيق شيئاً على ذراعي ، ولو كان كم قميصي القطني الفضفاض .

كنت أشعر به وكأنه كم من شوك .

ولكني لم أنبس ببنت شفة .. فيكفي أمي ما تعانيه من رؤيتها لابنتها الوحيدة تصارع مرض السرطان ( القاتل ، الخبيث ، المخيف )  ، وما كان يبدو عليّ من تعب لم أتمكن من إخفائه جراء العملية .

عدة أيام مرت ، وشعرت أمي بألم ( سلخة ) قوي تحت ثديها ” الأيسر “!!

كان يزعجها جداً ويؤلمها .

تقول : تعالي يا هناء ، انظري هل ثمة ( سلخة ) ؟

ولكن يا أمي .. المكان أبيض كاللبن ، و الجلد ناعم ونظيف .

ماهذا الألم إذاً ؟

تناولت بعض العلاجات ولكن لا فائدة ..

استمر معها الألم حتى بعد أن تعافيت منه ، بعد شهر تقريباً .

من أجل ذلك اضطررت إلى قضاء أيام النقاهة من جرعات الكيماوي الثانية بعد العملية بعيداً عنها، إما في ينبع أو المدينة .

أمي تصاب بما أصاب به ..

وكانت جلسات التاكسوتير أشدها وطأة وأعظمها ألماً بسبب حقن رفع المناعة .

كنت أحاول أن أفتعل المرح وأرفع صوتي إذا ما حادثتني يومياً بالهاتف ، ولكن أنفاسي كانت تتقطع من الألم في أول ستة أيام من تناول الجرعة ، وكانت هي تشعر ( بكتمة ) لا تعرف لها سبباً.

وفي رمضان ، كنت أمر بظروف عائلية صعبة ، وكعادتي لا أظهر لها إلا الضحك والقوة ، لكن قلبها ما كان ليخطئها ..

فزادت عليها ( الكتمة ) حتى ذهبنا بها إلى الطوارئ بعد العيد .

أقول لأخواني : أمي ليس بها إلا العافية ..

أو إن شئتم : أمي ليس بها إلا حب ابنتها الزائد الذي يدفعها إلى الإحساس بكل ما تحسه .

كانوا يلومونني : لا تخبريها إذن بآلامك ..

فكانوا يزيدون آلامي ..

وهل يعقل أن أخبر بآلامي لتتألم هي ؟

كنت أبذل جهداً فائقاً لأمثل ..

كنت أعاني من آلام السرطان وعلاجاته ، ومن خوف من الألم لو مت  ، ومن مشاكلي العائلية  ولكني كنت على الرغم من ذلك لا أبدي لها إلا كل تجلد وشجاعة .

ما ذنبي أنا إن كانت هي فائقة الإحساس بي وبما يخبؤه قلبي ؟

تكرر الأمر بعد انتهائي من العلاج الإشعاعي حيث أصبت بحروق كحروق الشمس في المنطقة المعالَجة ، وعادت لها ( السلخة ) مرة ثانية .

هذه المرة كنت أعرف السبب .

وعرفته هي ..

سألتني دون أن أوحي لها بأي شيء : هناء ، هل تشعرين ( بالسلخة ) الحارقة ؟

تمعر قلبي – دون وجهي – وسألت : لماذا يا أمي ؟

فقالت : أشعر بذلك في الجهة  اليسرى ..

لقد عاد الألم القديم .

ضحكت رغماً عني وقلت : يا ماما .. ألم تحفظي الدرس بعد ؟ كل ما يصيبني فإنه يصيبك .

المشكلة أني أتعافى من الألم سريعاً ، في حين تظل هي تعاني منها فترة طويلة بعد ذلك .

آخر مغامراتي مع أمي كانت أثناء اختباراتي الفصل الماضي ، فكما تعلمون الطالبة في سن جدتي تدرس في الجامعة عن طريق التعليم عن بعد .

و(محسوبتكم ) إنسانة مولعة بال أ+ فكنت أذاكر كثيراً  يومياً .

حتى كان ذلك اليوم الذي أرهقت فيه جداً فأصبت بهبوط شديد ودوخة قوية وخفقان في القلب يكاد يكون مؤلماً .

كان الأمر مزعجاً لدرجة أني أحسست أني سأعاين ملائكة الموت في أي لحظة ..

تركت ما بيدي ، وصرت أتلو الشهادتين ( حتى لو فجأني الموت فإنه يكون آخر ما أ تكلم به هو الشهادتين ) !!

ثم أني لما رأيت ان الأمر طال ولم أمت بعد ، فكرت أنه ربما لن يكون موتاً وإنما تعباً طارئاً بسبب الإرهاق ، فقمت للراحة وقلبي يحدثني أن أمي سيصيبها ما أصابني ..

ونذرت أني سأكتب في ذلك تدوينة لو ثبت عندي تأثرها بما ألمّ بي .

 بعد أربعة أيام حين ذهبت إلى جدة لزيارة أمي إذا بها تشتكي أنها في يوم الأحد (!!) شعرت بنغزات مؤلمة في قلبها في العاشرة مساء (!!) وأنها إلى الآن تشتكي من الخفقان .

ضحكت – وإن شر البلية ما يضحك -وأخبرتها بما حدث ، ثم قلت : لكني يا ماما كويسة الآن..

يعني بإمكانك أن تتعافي ..

ولكن ماما لم تكن لتتعافى مباشرة مما قد يصيبني ..

وهاهي تدوينة اليوم بين أيديكم ..

وفاءً للنذر الذي عقدته ..

أحكي لكم عن قصة من غرائب القصص ..

وأشكو إليكم خوفي على أمي ..

يعني الواحد ما يقدر يمرض بسلام ؟

Read Full Post »

Older Posts »