-” احم .. كلمتني أم سعيد اليوم “.
قالتها “جمال” وأخفضت عينيها وهي تلف ورق العنب بسرعة ماهرة ، ثم رفعتهما لترى ابنتها تحشي المعجنات بلا أدنى انفعالات ..
ضحكت “جمال” في سرها وهي تتخيل ردة فعل ابنتها المعتادة حينما تخبرها بالخبر ، ثم قالت متظاهرة بعدم الاكتراث :
-” أخبرتني أن أخاها علياً يريد أن يتزوج .. لم يكن يريد أن يتزوج بعد آمنة رحمها الله ، ولكن الدار باتت موحشة ، خاصة بعد أن تزوجت ابنته وسافر ولديه للبعثة ” ..
سكتت “جمال” برهة ، وقبل أن تعاود الكلام ، باغتتها ليلى فقالت :
-“لا!”
-” إيش هو الي لأ؟” ، ومنعت نفسها بقوة من إفلات ضحكة على ثورة ابنتها المتوقعة .
– ” أمي ، خلاص .. ألم أخبرك من قبل أني لن أتزوج “؟
سكتت الأم ، ولم ترغب في إكمال الحديث .. تفهم جيداً مشاعرها ، ولكن القوانين والأعراف جرت أن الأم لابد أن تزعج بناتها بطلبات الزواج ، والإلحاح عليهن ، وإخبارهن بالرغبة في الاطمئنان عليهن ورؤية الأحفاد قبل الموت .. هذه المرة شعرت فجأة بالملل .. باليأس .. بالاقتناع !! كلاهما في نفس المعسكر .. معسكر النساء اللواتي فقدن أزواجهن العطوفين في سن مبكرة نسبياً ، إما بموت أو طلاق ..
ابتسمت ليلى هذه المرة وقالت :
– ” ليست عادتك .. مابالك اليوم ؟ تبدين محبطة ” ..
– ” لست محبطة .. فقط وضعت نفسي مكانك هذه المرة .. مع أني في مكانك منذ أن توفي أبوك ، إلا أن الشعور الدائم بالحاجة إلى الزوج أمر ملح ومزعج .. أنا – على الأقل- أعاني منه .. لايبدو لي أني تمكنت من اجتياز هذا الأمر على الرغم من كل هذه السنين “.
– ” لماذا لا تتزوجين إذن ؟ كم من الخطاب طرق بابك ؟ لستِ عجوزاً بعد .. لماذا لا تتزوجين أخا أم سعيد ؟”
رمقتها جمال باندهاش ، ثم رمت عليها ورقة عنب متقطعة وقالت باستنكار :
– “أبلهاء أنت؟ أخوها أصغر مني بعدة سنوات .. ثم من قال أني أكره ذلك لو أنه كان مناسباً .. “
– ” يوجد مناسبون كُثُر غيره .. أمي .. إحدى وخمسون سنة ليست سناً كبيرة .. بل إنه لازال بإمكانك أن تنجبي”..
– ” تخيلي !! من سيتزوجني وأنا في هذه السن ، ولماذا ؟ صحيح أني دائماً أشتاق لدفء الزوج وحنانه، حدبه وصبره، الأمان الذي يشعرني به ، الثناء ، الاهتمام ومراعاة الخاطر … “
– ” الأمان ؟ وهل مع الرجال أمان ؟”
لم تخفَ على جمال نبرة ابنتها الساخطة ، وآلمها قلبها .. لا تعرف متى ستتجاوز ليلى محنتها .. منذ أن تركها أحمد وغادر تلبستها المرارة تلبساً ، في قلبها ولسانها ومشاعرها .. وكأن العالم كله قد اختُصر في شخص أحمد الذي راح .. ذاك الرجل الوسيم الذي كان يكبرها بخمس عشرة سنة .. وكأنه أحد أبطال الروايات الرومانسية التي كانت تقرؤها في مراهقتها بعيداً عن عيني أمها .. السمار الأخاذ ، الطول الجذاب ، الصوت العميق، وكل الحب و الحنان .. يشبههم في كل شيء ، حتى في تلك السيجارة التي أولع بها منذ صغره .. كل شيء تقريباً ، إلا أنه لم يكن يملك عضلاتهم المفتولة ، ولا قساوتهم التي كانت تجعل القارئات يزفرن بحرارة كلما التفت أصابع أحدهم حول شعر محبوبته التي خانته ليجذبه بقسوة الأسد جريح الكرامة وليقول الخ الخ الخ ..
كثيراً ما كانت تفض نزاعاتهم والتي ما كانت لتثور إلا بسبب ولعه بالتدخين، ورفضه الإقلاع عنه ، فقد تزوج ليلى صغيرة ، وفتنها بشخصيته الآسرة فكانت طوع أمره لا تكاد تخالفه في شيء .. لذا فقد كانت صدمتها العظمى حين لملم أحمد أغراضه ذات يوم وطلقها وخرج .. هكذا بكل بساطة ..
لا يمكنها أن تنسى كيف أصاب ليلى ذهول عظيم استمر لأيام وليالٍ ، لا تتكلم ولا تأكل ولا تفتأ تردد كلما حادثتها أمها ” لم يكن الأمر يستحق “.. كم تكره أن تتذكر كل تلك التفاصيل .. تعبت معها كثيراً حتى تمكنت من معاونتها على الخروج من تلك الدوامة ، ومنذ ذلك اليوم جعلت ليلى تفرغ كل مشاعر الدنيا الجميلة في أولادها ، وفي حسن بالذات ..
– ” ألم تقولي من قبل أنه ربما يكون قد سُحر ؟ لماذا لا زلت ناقمة عليه ؟ ما ذنبه إن كان سُحر بالفعل؟”
– أحاول يا أمي أن أجد مبرراً مقنعاً لنفسي وللناس .. ولكني لا أكاد أقتنع به .. أقول لك ؟ لقد مللت من هذا الموضوع .. أظننا تكلمنا فيه ملايين المرات حتى الآن .. ألم تذهب إيناس وأفنان إلى المشغل بعد ؟ “
وقامت دون أن تنتظر جواباً ، وبقيت الأم تزفر بضيق .. هاهو يوم آخر يخرب مزاجها ، ذُكر فيه أحمد ، ومرارة ليلى.. والزوج .. الزوج الذي تعلم أنه لن يأتي في هذه الدنيا ..
دخلت ليلى حجرتها وأوصدت الباب ثم غرقت في بكاء مرير .. كلما فاتحتها أمها بموضوع الزواج هاجت مشاعر الغضب والألم .. لم يكن الأمر يستحق .. لماذا تركها ؟ تباً لهذه المشاعر .. مابالها لا تخمد ؟ هل حقاً سُحر ؟ سحقاً لمن سَحر .. شعرت ليلى أن حلقة الحصار تضيق حولها ، فانطلق لسانها بالاستغفار ، وهي استراتيجية جديدة تعلمتها من أبلة نوال معلمة العلوم وصديقة أمها الصدوقة ، وكانت هذه الاستراتيجية تؤتي أكلها دائماً ، وتفلح في إيقاف نوبة البكاء الضارية بأدنى حد ممكن من الخسائر . وسرعان ما انصرف ذهنها إلى أولادها .. لابد أن تنسى مجددًا .. لابد أن تتجلد لتربيهم .. صدقت أمها حينما أخبرتها أن رؤيتهم لها حزينة وباكية دائماً سيضرهم.. كما أن عليها أن تتوقف عن العادة السيئة في التجسس على أوراق حسن التي يخبؤها أسفل درجه .. قراءتها لتلك الأوراق تهيج مشاعرها دائماً .. لم تدرِ من أين أتى ذاك الفتى بكل تلك الدقة في وصف المشاعر .. كانت القصة التي يخبؤها أسفل الدرج تصور جميل وخياليّ لقصتها هي .. كل التفاصيل التي يُجري بها حسن قصته تنبئ عن نهاية سعيدة : الأب سيعود في يوم ما .. هذه النهاية كانت تتمناها ليلى سراً وتتخيلها حال قراءتها وكأنها حقيقة واقعة .. كانت تدفع ثمن هذا الخيال غالياً ..