تمشي في الردهة الطويلة ، ساهمة ، بعين دامعة ، وفكر شارد .. شارد إلى تلك التي أغلقت عينيها بيدها إلى الأبد ..
أصيبت ( الملكة ) كما كانت تحب أن تناديها بجلطة في الدماغ من ست سنين ، ومنذ ذلك الحين ظلت تكابد سلسلة متناوبة من الأوجاع والأسقام ، حتى أصيبت بالجلطة الأخيرة التي أردتها في غيبوبة طويلة دامت عشرة أشهر لم تفق منها إلى أن فاضت روحها ، ويدها في يدها .
تمشي في الردهة الباردة وبجانبها أبوها المكلوم ولا تكاد تدري من الذي بجانبها .. فقط هي ترى في خيالها صوراً متتابعة تتنبدل بصمت وبسرعة مذهلة ..
هذه صورة لامرأة شابة ذات ثلاثة أولاد صغار في بلد الغربة مع زوجها المبتعث ، تقوم بعمل البيت ورعاية الأولاد .. لم يكونوا يكثرون التشاجر لأنها علمتهم المحبة والعطف على بعضهم البعض ، خاصة وأنها هي البنت الوحيدة ، والصغرى ..
تذكر ( ملكتها ) وهي تردد : مكثنا في ( …) سبع سنوات لم أذهب خلالها إلى المسرح أبداً لأن أولادي كانوا ينامون مبكراً ، والمسرحيات تبدأ في التاسعة مساء !!
صورة أخرى وقد عادت إلى وطنها وابتعث زوجها مرة أخرى لبلد أجنبي وتركهم .. ترعاهم كما ترعى عينيها .. لاتكاد ترسل الذكور إلى البقالة خوفاً عليهم .. وتكافح بشدة لتقيم عوج ثلاثة مراهقين غاب أبوهم ، في عالم يزخر بالفساد ..
صورة ثالثة لأمها المفجوعة وقد أصيب الأب بجلطة في القلب ، تجلس بجانبه في العناية المركزة بعينين زائغتين ، تحمل هم رعاية الأولاد الثلاثة لو رحل والدهم .. وتحمل هم الحزن الدفين الذي سيغمر قلبها لوفاة شريك عمرها ..
وصورة رابعة ، وخامسة ، وعاشرة وألف .. بل آلاف الصور لتلك المرأة العظيمة التي جاهدت ليحصل أولادها على أعلى مراتب التعليم وهي الأمية التي لاتقرأ إلاالقرآن فقط .. المرأة السخية ، المتصدقة ، التي لا تخاف في الله لومة لائم ..
وبين هذا وذاك كان حزنها غامراً على والدها الذي بدا ضائعاً في متاهة الحزن ، تائهاً في سراديب الألم .. حبه الأول والأخير ، شريكة حياته لأكثر من نصف قرن ترقد مسجاة على سرير ابيض في غيبوبة طويلة لا يعرف متى تفيق ..
تسهر بجانبها الليالي الطويلة ، أو تنام بنصف عين ، قلبها مع ملكتها الغائبة عن الوعي ، وقد التصقت بها أنابيب شتى ، منها ما يضخ في رئتيها الأكسجين ، ومنها ما يزودها بالغذاء ، وشيء للمحاليل الملحية ، أصوات كئيبة تصدر من الأجهزة المختلفة ، هذا جهاز التنفس ، وذاك لقياس الضغط ، وصوت متقطع لا تدري ما مصدره .. تنام وقلبها مستيقظ لأدنى حركة أو عسر تنفس أو أنين تصدره ..
وأحياناً تنظر الملكة إلى ابنتها بعينين من زجاج .. تنظر لها وكأنها تقول : أنا أعلم أنك بجانبي ، أنا أعلم أن تردين لي بعض الدين .. أنا أسمعك ولكني لا أستطيع حراكاً ولا كلاماً .. فيكاد قلبها يذوب ..
تتأمل ملكتها بشغف ، وتناغيها كما تناغي الأم طفلتها الصغيرة : يا ملكة .. كيف حالك ؟ تقرص خدها البارد برقة شديدة ، تلثم يدها المزرقة من آثار الحقن والمغذيات ، تغطيها بحدب وحرص وقلبها يتقطع ألماً ..
ولماكان اليوم الموعود الذي فيه استرد الله وديعته ، كانت يدها في يدها ، تنظر إليها بذات العينين الزجاجيتين ، ولكن هذه المرة لم تكن النظرة تعني شيئاً .. كانت نظرة غارقة في بحر اللا شيء ..
تحسست قدميها المتسربلتين بخف صوفي ، فألفتهما باردتين كما الثلج .. دق قلبها بعنف .. يقولون أن من علامات الاحتضار برودة الأطراف .. يداها باردتان كذلك .. وهذه النظرة ..
لا يا ملكتي .. لا تتركيني وحدي .. من لي بعدك ؟؟ من سيمسح على شعري كلما أوجعتني آلام الدورة الشهرية .. من سيشفع لي عند والدي إذا ما تأخرت عند صديقتي ؟ من سيستقبلني عند الباب كلما عدت من الجامعة ؟ من سيتناول معي الشاي بعد العشاء أسامره ويسامرني بأحداث المساء . من سيدعو لي بالهداية والزوج الصالح والأبناء ؟
لا تتركيني يا ملكتي في هذا العالم القاسي .. أنت كنت لي فيه الدفء والحب والنعيم ..
بدأت تبكي ، وتردد : لا إله إلا الله .. حسبي الله ونعم الوكيل .. يا رب .. يا رب .. وتلك النظرة تلاحقها.. تلك النظرة ..
تنظر إلى صدرها وهو يعلو ويهبط بثقل شديد ..
إنها تعاني ..
إنها تقاسي سكرات الموت ..
نقلت عينيها إلى الجهاز الذي يعلو رأسها ، نبضات القلب تغيب وتعود أحياناً .. والنفس عسير عسير ..
قافلة الجمال الخضراء على الشاشة اختفت ، فقط ليحل محلها خط أخضر مستقيم فيه تعرجات جد خفيفة ، ثم لا يلبث أن يستقيم .. صفير متقطع يصدر من جهاز آخر ..
لم تعد برجليها القدرة لتحملها بحثاً عن نجدة .. تسمرت في مكانها و ظلت تنظر بعينيها اللتين ملأتهما الدموع إلى وجه ملكتها .. سمعت صوتاً غريباً ضعيفاً من حلقها الذي ثبت فيه أنبوب التنفس .. ارتعش اللسان ، ثم تحركت هاتين العينان الخاويتان إلى الأعلى ..
وبين حشايا قلبها ترددت صرخة حرى تشيع الروح التي صعدت للتو إلى بارئها ..
أغمضت العينين الشاخصتين بيديها المرتجفتين وهي تنتحب ..
دموعها تهطل على وجهها ، ونشيجها يتسابق مع استرجاعها..
وأخيراً ، انكفأت على الصدر الحاني الذي طالما حواها وحوى جميع عائلتها ، اعتنقتها وهي تزفر بحرقة وتهمس بصوت باك … آآآآه يا أمي ..
رحيل الملكة
5 فيفري 2011 بواسطة هناء
جمييلة القصة دي
بس تراني ما أحوبها :””
يا بنيتي ، تحبيها أو ما تحبيها .. هذا الأمر حق علينا ، ووالي يصير اليوم لفلان حيصير بكرة لعلان .. والسعيد من وُعظ بغيره ،والشقي من وُعظ بنفسه ..
مررررررة تبككككككي يا عمة
بس حلوة وأسلوبها رائع ..
عمه .. ايش داا جدا حزينه .. 😦
هنو فكرتيني بأم زوجي رحمها الله كانت فعلا ملكه وكنت دائما أناديها بالملكه إلزابيث.ملكات كثيرات كن في حياتنا رحلن من دنيانا ولكن سنظل دائما نتذكرهن وندعو لهن بالفردوس الأعلي من الجنه.
ياسلااااااام