Feeds:
المقالات
التعليقات

Posts Tagged ‘أقصوصة’

دخل إلى الحجرة تتقدمه عكازه الفاخرة ، يتوكأ عليها ، يمشي بوهن يحاذر السقوط .. جلس على أريكته الوثيرة بجانب قطته الشيرازية البيضاء .. نظرت إليه بعينيها الناعستين ثم أسندت رأسها على يدها وأكملت نومها . ألم كوخز الكهرباء يسري في رجليه .. هذا الألم يعاوده بين الفينة والفينة ولا يدري ما سببه ، ولا يريد أن يدري ! خلع نظارته وجعل يمسح عدساتها بمنديل كان جانبه ، ثم أرجع رأسه للخلف فالتقت عيناه بالصورة المعلقة في صدر المجلس .. صورة كبير فخمة لرجل وسيم نوعاً ما ، فارع الطول بثياب العمل ، خوذة المهندسين البيضاء في يده ، ومن خلفه يبدو المشروع الكبير الذي أدخله إلى مصاف الأغنياء ؛ المنتجع السياحي الرائع والذي ظل حديث الصحف لأعوام عديدة . لم يكن يرى الصور جيداً ، فالغبش أضحى رفيقه منذ أن أصيبت عيناه بالماء الأبيض من عدة أعوام . شعر فجأة بجفاف في حلقه .. نادى بصوته الواهن على زوجته عدة مرات قبل أن تأتيه الخادمة : نعم بابا .. ماما مافي .. ماما سافر بيت ماما سهام ..نسيت بابا ؟ نعم نعم .. سافرت زوجته اليوم صباحاً لتزور ابنتهما التي تقطن في مدينة أخرى ..كيف نسي ؟ لابد أن النسيان قد غدا أيضاً من رفقائه الدائمين هذه الأيام .. طلب منها ماء ثم عاد فأسند رأسه إلى الوراء يتأمل في هذه الصورة .. ويتعجب من هذه الدنيا .. فكر : لو كان يمثل في فيلم لتعالى صوت الموسيقى التصويرية الخافتة لتوحي كم هو حزين هذا الرجل .. ابتسم ساخراً من نفسه ومن خيالاته ، وحدث نفسه بصوت مرتفع : سبحان الله .. إيش هذي الدنيا ؟

 تلقائياً وبدون تفكير امتدت يده نحو ( الريموت ) وأشعل التلفاز .. على أي شيء ، أي شيء يمكن أن يطرد الأفكار الشريرة التي اعتادت على زيارته في الآونة الأخيرة .. وحين أقول الآونة الأخيرة ، فإني أقصد بها السنين الخمس الأخيرة .. فجأة ، شعر بالضعف والوهن ، فجأة شعر بالمرض , فجأة شعر بالـ.. وحدة !! هو يفهم لم يشعر بالضعف والوهن والمرض ، فهو قد جاوز السبعين حاملاً في يده حقيبة لا بأس بها ملأى بالأمراض : الضغط ، السكري ، الكلسترول ، التهابات متكررة في الرئة ، التهابات متكررة في المفاصل ، ماء أبيض في العينين ، لثة متقرحة بسبب تركيبة الأسنان التي تأبى أن يضبطها أي طبيب .. ولكن الوحدة .. لم يشعر بالوحدة وعنده زوج تهوى الثرثرة  إذا ما أتيحت لها الفرصة ، وخادمتان تشبهان مخدومتهما ، وتلفاز 50 بوصة يتربع بوقار أمام أريكته الأثيرة ، والكثير من المجلات والصحف اليومية تملأ حياته بعدما طلب التقاعد من خمس سنوات ليرتاح على حد زعمه .. أتراه وجد الراحة ؟

هو يشعر أنه هذه الراحة هي التي أتعبته . فجأة وجد نفسه خالياً من العمل ، كان يصحو يومياً وينهض من سريره ، فقط ليتمدد ثانية على الأريكة أمام التلفاز ، يتابع المباريات والبرامج الإخبارية ، ويقرأ الصحف والمجلات ، وينقضي النهار ليعود ليلاً وينام في سريره .. وبين هذا وذاك الكثير من المشاجرات مع زوجته وسائقه وخادمه، الكثير من الأفكار الشريرة التي تأخذ بمجامع فكره لسويعات قبل أن يقوم بمحاولة واهنة لطردها . تمر بعقله صور سريعة ، لكنها معبرة ، عن الماضي الجميل .. حين كان مشهوراً ، ومحبوباً من الناس لوسامته ، وكرمه و.. ماله وشهرته .. كثير ممن حوله كان يعلق معرفته الوثيقة بهذا الشخص وساماً على صدره لتُفتح أمامه أبواب كبيرة من الاهتمام والرعاية . هو درس وعمل بجد وتفان وإخلاص حتى وصل إلى ما كان ينشده من نجاحات ، بل وأكثر .. وبالتأكيد كان لابد من دفع ثمن لهذا النجاح .. والثمن المعتاد هو الأسرة .

كان كثير الغياب عن أسرته ، وفي الوقت ذاته كان نافد الصبر في تربيته لأولاده .. فكان يعاملهم بالكثير من الجفاء لأن إسباغ الحنان يستلزم وقتاً ، والوقت في حياته يساوي ذهباً وألماساً والمزيد من الترف والرفاهية .. و مع شدة كرمه المادي معهم ، إلا أنه كان شحيحاً بعواطفه ، فلا يذكر متى احتضن ابنه الأكبر ، ولعله قبّل بناته عدة مرات بعد أن كبرن .. أما الزوجة ، فقد خصها بأنواع  الازدراء والقرف لأنه كان يراها دون مستواه التعليمي بمراحل بعيدة .

 لا يعرف كم من المرات – لعلها تعد بالعشرات – أراد أحد أبنائه المراهقين أن يفصح له عن خوفه من تحرشات بعض ( البلطجية ) من الطلاب في مدرسته ، أو مروجي المخدرات ، أو عصابات الأزقة تعترض طريقه أثناء خروجه من المدرسة إذا تأخر السائق ، فخاف من بطشه ، وبلع سره في بطنه وسكت .. لا يعرف كم من المرات احتاجت إحدى بناته حضناً وقبلات وكلمات إطراء من رجل لترضي أنوثتها ، فوجدت أن الرجل الوحيد الذي بإمكانه أن يفعل ذلك مشغول ، أو مشغول.. وفي أحسن الأحوال : مشغول !!

تقاريرهم المدرسية توقعها أمهم بتوقيع الأب الذي أتقنت تزويره للحاجة ، المستشفيات لا تعرف وجهه إلا عند ولادة الأم ، وغير ذلك فلا دخل له إلا بالدفع .. قرأ مرة في الورقة الخلفية من إحدى كراريس المدرسة لابنته نادية : ( أبغى بابا يكون بابا ، مو مكينة صراف ) ، فرمى بالكراس بعيداً وهو يحدث نفسه بحنق : ( أهلك نفسي لأجلكم أيتها الحيوانات ) .

تحلق حوله صغاره مرة في محاولة يائسة منهم لجذب اهتمامه ، عله يكرم أحدهم بقبلة أو حضن دافئ وإن كان سريعاً .. الحق أنه حاول مجاراتهم إلا أنه لم يحتمل الأمر لأكثر من عشر دقائق ، ضاق بعدها ذرعاً بإزعاجهم ، فصرخ بهم : خلاااااص ، اذهبوا بعيداً .. يا الله ، متى تتزوجون وأرتاح من إزعاجكم .. ليرتفع صوت زوجته ” الجاهلة ” تذكره : لا تقل ذلك  أبا فلان .. سيأتي يوم تتمنى وجودهم بجانبك .. يرمقها بالازدراء المعهود وينهض مغادراً ” الإزعاج” ..

سمع مرة من خلف الباب المغلق حواراً سريعاً بين ابنه الكبير وأمه ، هي تقنعه بمدى حب أبيه لهم لكنه مشغول بتوفير الرزق الرغيد لهم ، وهو يقول بصوت – فكر كم يبدو مضحكاً مفتعل الخشونة بسبب بلوغه حديثاً ، وللغصة الكبيرة التي كانت بسبب البكاء ربما ، أو لعلها الحساسية .. أم أن أخاه هو المصاب بالحساسية – : لا نريد ألعاباً غالية ، ولا سيارات متجددة .. نريد أباً نشعر في ظله بالأمان .. نريد أباً يناقشنا كأب ما نفعل إزاء مشاكلنا ، أحلامنا ، اختياراتنا المدرسية والجامعية .. و… عندها غادر موقعه لأنه مستعجل ويريد اللحاق بالاجتماع الطارئ لمجلس الإدارة ، همس بحنق بين أسنانه : ( مافش فايدة ) .. حيوانات !!

سنين مرت ، وتزوج البعض ، وسافر البعض الآخر للعمل أو الدراسة ، وخلا البيت الكبير إلا منه ومن زوجه .. ومع تقدمها في السن صارت شرسة .. ما بالها ( هذي الحرمة ) ؟ أكلمها فترد لي الكلمة أربعاً .. أنتقدها فتهوج في وجهي .. ما الذي تغير؟ أنا – عن نفسي -كما أنا .. لم أتغير أبداً ، ولكن ما بالها هي ؟ ( صاحية هي ؟ )

ومر المزيد من السنين وطلب التقاعد من الشركة لأنه يريد أن يرتاح بقية أيامه خاصة بعد إصابته ببعض الأمراض ، ويريد أن ينعم بمجالسة أولاده وأحفاده .. أولاد ؟ أحفاد ؟ ما معنى هاتين الكلمتين ؟ الآن فقط انتبه أنهم ما كانوا يزورونه إلا في الأعياد .. صحيح أنهم كلهم خارج المدينة ، لكن الطائرات ما أبقت عذراً لأحد بعدم الزيارة .. الآن فقط انتبه أن والدتهم هي التي كانت تزورهم كثيراً وتقضي عندهم أياماً طويلة .. الآن فقط انتبه إلى أنه يحتاجهم جداً .. نعم .. يحتاج لأن يخدموه ، ويؤنسوه في الليالي الشتوية الطويلة .. يحتاج لرؤية أحفاده ليحكي لهم بعضاً من قصص العصامية التي بنت حياته العملية .. يحتاج لأحضان بناته تدفئ قلبه المسن .. يحتاج بعضاً من استجلاب الذكريات السعيدة .. ذكريات سعيدة ؟ مامعنى هاتين الكلمتين ؟ يبدو أنه صار أعجمياً في الآونة الأخيرة .. أي ذكريات سعيدة ؟ هو لا يذكر عن أولاده إلا أنهم كانوا دائماً في حجراتهم يلعبون بالألعاب الغالية التي يغدقها عليهم أو متحلقين حول والدتهم عديمة الثقافة تحكي لهم قصة ما . هم لا يذكرون عن أبيهم إلا ازدرائه الواضح لأمهم ( أحب المخلوقات إلى قلوبهم الصغيرة ) ، وجملته الأثيرة : ( بأشتغل لكم يا حيوانات ) !! فأي ذكريات سعيدة عساها أن تستجلب ؟

نار بدأت صغيرة تتأجج في قلبه وهو يقلب صورهم .. في ذات الوقت الذي بدأت فيه آلام الشيخوخة بالزحف إلى جسده .. يعتصر قلبه حينما يسمع أصدقائه يحكون عن آخر قفشات أولادهم أو يقلدون لثغات ألسنة أحفادهم اللذيذة ، أو احتفاء زوجات أبنائهم به ، أو دعوة أزواج بناتهم له في رحلة القارب الفاخر، أو قضاء عطلة الأسبوع في الطائف .. مرة واحدة استلزمت جهداً جهيداً من نفسه المصابة بداء الكبرياء حين رفع السماعة على ابنته سهام والتي تعتبر أكثرهم براً بأبيها ، وقال : وحشتوني يا سهام .. وحشني أخوانك .. تعالوا مبكراً هذه المرة .. تعالوا من منتصف رمضان .. أفطروا عندي كلكم هذه السنة .. البيت يسعكم كلكم كما تعلمين .. أريد أن أملأ عيني برؤيتكم أجمعين .. أريد أن أشمكم وأحضنكم .. أريد أن أشبع من صحبتكم قبل أن أموت ..

لايعرف أن سهام بكت بكاء حاراً وهي تسمع هذه الكلمات ، ونفسها تهتف من عمق سحيق بداخل صدرها ( ليه مو من بدري هذا الكلام يا بابا ) ؟ لا يعرف أن سهام وأمها حاولتا كثيراً مع أخوتها لكنهم تعذروا بأعذار شتى .. ما كنت لتقنع أحداً ذا لب .. ولكنها كانت كافية لتسكت ذاك الصوت الرتيب القبيح في قلوبهم : كما تدين تدان !! وفعلاً ، لم يأت مبكراً في تلك السنة إلا سهام وأولادها .. بل إن بعض أولاده لم يحضر عشاء العيد لانشغاله بمؤتمرات مهمة خارج البلاد .. وفي الشهور التالية أبت عليه كبرياؤه أن يطلب رؤية أولاده وأحفاده مجدداً ، ولكن النار الصغيرة التي في قلبه كانت تزداداً اشتعالاً .. كان يشعر بها تلتهم شيئاً ما في قلبه .. ثم تزحف لصدره .. أحياناً يتخيل أنه يضم إليه ولده الأصغر فينتبه على نفسه وهو يعتصر الوسادة الصغيرة بيده .. يشعر بفراغ كبير في منطقة الصدر .. يريد أن يضم شيئاً .. فيضم الوسادة الحمراء ، ولكنها للأسف لا تفي ولا بربع الغرض ..

ارتفع صوت أنشودة ما في القناة التي فتحها .. رفع عينيه الباكيتين إلى التلفاز، شده هذا المنظر ، منظر الأب الوحيد الذي تركه ابنه ليسافر .. مسح عينيه بأصابعه المعروقتين ليتمكن من الرؤية بوضوح ، ومضى يتابع المقطع ، وشيئاً فشيئاً  نما في نفسه  برعم أمل صغير صغير ..

 

Read Full Post »

حينما عرفت بخبر إصابتي بالسرطان ، خشيت على أمي خشية شديدة .. أخبركم نزراً يسيراً عن نفسي .. أنا الابنة الصغرى والوحيدة لأمي . توفي والدي رحمه الله وأنا في العاشرة , ولأمي ابن مراهق يكبرني بخمس سنوات .. لك أن تتخيل كيف عانت أمي لتربي مراهقين عنيدين وحدها . كانت أمي شديدة التعلق بي ، ولما تزوجت سافرت مع زوجي إلى مقر عمله ، وهكذا أمضيت أربعاً وعشرين سنة بعيدة عنها ، أزورها فقط في الإجازات والأعياد ..

في الآونة الأخيرة قبل أن أصاب بمرضي لاحظت أن أمي كانت تطيل النظر إليّ . تغافلني وتنظر في وجهي وكأنها تملأ عينيها من صورتي . كنت أعرف أنها تراني – أنا ابنة الأربعين – تماماً كما أرى الآن شمسي الصغيرة .. أتوقع أنها كانت تتمنى لو تضمني وتشمني كما أفعل أنا بشمس ، ولكن للأسف ، لم يعتد – كلانا – على ذلك .

فلما أصبت بالسرطان ، لم أعلم كيف كنت لأمهد لها الأمر .. أخبرتها أني جئت لأكشف على ( وريم ) صغير اكتشفته في ثديي الأيسر ، وأنه غير مقلقي إلا أن أبا خالد مصر على استشارة الأطباء في جدة .. لا أدري كم من المرات زلت لساني وذكرت أنني أجريت أشعة في المدينة ، وعينة ، وأشعة أخرى . ولكن أمي كانت كالمنومة التي لا تريد أن تصدق إلا ما أملاه عليها عقلها .. عقلها أخبرها أن ما أصاب هناء ورم حميد ، بالضبط كالذي أصابها هي نفسها قبل أكثر من ثلاثين سنة ، وفي الثدي نفسه ، لذا فإنها لم تكن لتبدي اكتراثاً بهذا الجاثم على صدري ، وبدلاً من ذلك فقد أولت اهتماماً كبيراً للانفلونزا الخفيفة التي أصابتني خشية أن تكون انفلونزا خنازير خاصة وأنها أصابت البعض من عائلتي .

حاولت أن أعلمها بالخبر بروية .. كل يومين أعطيها معلومة جديدة ، وأسرب لها نبأً لم تكن تعلمه . حتى تكونت عندها صورة شبه واضحة عن إصابتي بالسرطان ، وياللعجب ، لم تبد انزعاجاً كما توقعت .. مجرد شعور بالحزن العميق والهم . ابتلعت أمي كل آلامها وأحزانها حتى لا تشعرني بالأسى على نفسي ، خاصة وأني كنت أمر ببعض المشاكل العائلية . كنت في هذه الفترة أحاول مضاعفة مرحي لئلا تشعر بهمي . نعم ، صحيح أني تقبلت الأمر بحمد الله ، ولكن لم يخل بالي من الهم والتفكير .. هذا أمر جديد في عائلتي . لا نعرف أحداً أصيب بهذا المرض هنا. السرطان .. يالها من كلمة لها رنين مزعج وغريب . هذا أمر يحدث للآخرين فقط ، فما باله يحدث لنا الآن ؟

 كنت أستغل كل دقائق انفرادنا ببعضنا لأحكي لها حكايات مضحكة، وأفتعل المرح لأصرف عن ذهنها التفكير بمرضي .. ولكن ماذا يُتوقع من أم تعرف أن ابنتها الوحيدة قد أصيبت بهذا البعبع ؟

أمي ليست طبيعية ، حتماً .. شهر مر حتى الآن ولم تصارحني بحقيقة مشاعرها أو تبكي .. أتراها لا زالت في مرحلة التكذيب ؟ أخشى عليها الانهيار النفسي .. لابد أن تبكي .. لا بد أن تتكلم . صمودها هذا ضباب رقيق يخفي وراءه جبالاً من الألم أخشى أن تتصدع ، ولكن متى ، وكيف ؟

حتى كان اليوم الذي كنا نتفرج فيه على التلفاز ، ورأت أمي لأول مرة أنشودة ( شفاء بسمة ) .. لا أزال أبكي حتى الآن كلما سمعت هذه الأنشودة .. وأكره أن أشاهد مقطعها التمثيلي بحضرة أحد إذ سرعان ما تفضحني دموعي وصوتي المخنوق بالعبرات .

 

كالعادة غصصت بهذا الشعور الذي لا أعرف سره حتى هذه اللحظة ودمعت عيناي .. أشحت بوجهي عن أمي كي لا ترى دمعتي ، ولكي لا أرى بكاءها .. لمحت وجهها قد احمر جداً ، وسمعت تسارع أنفاسها تحاول كبت شيء ما ، لم تغير أمي القناة كما توقعت ، ولكنها تسمرت أمام الشاشة وأرعت سمعها لكلمات النشيد الجميلة .. كلمات ملأى بالتفاؤل والأمل .

انتهى النشيد ، وزفرت أمي زفرة حارة تحاول بها أن تكفكف دمع قلبها . كالعادة غيرت الموضوع ..

في المساء .. أخبرت أمي عن عائلة تحتاج للصدقة لو كان عندها ما تبذله . فأخبرتني أن أذكرها قبل النوم .. سكتت برهة .. ثم قالت بصوت مرتجف : أخرجت ألف ريال .. صدقة ليشفيك الله من السرطان .. ثم انفجرت ببكاء مرير ، حار أودعت فيه عذابات الأيام الماضية .. السهر والقلق في الليل .. الدعاء الخاشع الخالص لله ربي أن يشفيني .. آلام الخوف من أن تنالني يد الموت وتُحرم من ابنتها الصغرى والوحيدة .. الموت .. الموت .. نعم . هذا ما كان يؤرقها ، فمتى كنا نعرف أن السرطان لا يميت ؟

بكت في حضني ، وبكيت معها ، لا على نفسي ، ولكن على هذه المرأة الضعيفة ، التي أضحى رأسها أبيض كالثلج ، وأوهن جسدها الضئيل العمر ومحن السنين ، وهاهي الآن تُصاب في فؤادها .

 أخيراً يا أمي .. أخرجت خبايا قلبك .. أفرغت شحنات الألم والخوف والقلق السالبة التي أرقتك الأيام الماضية .. الحمد لله .. هذا ما كنت أريده .. الآن فقط بإمكانك يا أمي أن ترعيني في مرضي .. والآن فقط اطمئننت عليك !

Read Full Post »

هذه التدوينة عبارة عن أحد فصول كتابي الذي سيصدر قريباً بإذن الله  واسمه : الحياة الجديدة ، أيامي مع سرطان الثدي  .. وقد اخترت لكم هذا الفصل ، لأني أحبه كثيراً ، وعشت أحداثه بسعادة لذيذة .. أرجو أن تستمتعوا بقراءته كما استمتعت أنا بأحداثه .

دخلت العشر الأواخر ، وفكرة الإفطار في الحرم تلح علي منذ عشرة أعوام ، إلا أن ظروفي مع أولادي لم تكن تسمح لي بذلك ، فهم لا يرغبون بتناول الإفطار في الحرم ، وأنا لا أحبذ فكرة تناول الوجبة الرئيسية خارج المنزل، بعيداً عن أفراد العائلة .

الآن ، أنا وحدي .. أولادي صاروا يتناولون طعام الإفطار في الحرم مع ( السفرة ) ..

أتراني أستطيع أن أفطر في الحرم ؟ كنت كلما أنتظر أذان المغرب أمام شاشة التلفاز ، وأشاهد الجموع الغفيرة وهي تتناول إفطارها في تكافل وود ، وكلٌ يدعو الآخر لمشاركته ( الشريك ) أو ( الحيسة ) ، ويصبون القهوة لبعضهم البعض ، وأمام كل واحد منهم علبة اللبن الزبادي ، ينثر عليها ( الدقة ) ويقلبها بالملعقة ثم يتناولها بتلذذ ،  تهفو نفسي لمشاركتهم هذا الجو الرحيم..

كل يوم كنت أقول : الله .. نفسي أفطر في الحرم .

 وكل يوم كان خالد يقول : أوديكي بكرة ..

وكل يوم كنت أتراجع عن الفكرة لعدم رغبتي في الذهاب من الساعة الخامسة لأجد مكاناً .. لم يكن بمقدوري أن أجلس على هيئة واحدة لأكثر من نصف ساعة .. كما تعلمون .. رجلي اليمنى تؤلمني جداً..

لكن لما دخلت العشر الأواخر ، وازداد غياب أولادي بسبب ( السفرة ) و التهجد ، فكرت جدياً هذه المرة ..

حادثت صديقتي سارة .. وأخبرتها برغبتي .. فتواعدنا ليلة الثالث والعشرين في مكان معين تفطر فيه مع بعض معارفها.

ويبدو أن خطئي الأكبر كان خروجي من البيت في السادسة إلا ربعاً .. لما وصلنا إلى الحرم ، كانت مواقف السيارات السفلية قد أُغلقت لامتلائها ، والشوارع مزدحمة بالناس وهم يتجهون إلى الحرم ومعهم في أيديهم زواداتهم ..

كان خالد يبحث جاهداً عن مدخل من هنا وهناك يقربنا إلى الحرم حتى لا أضطر إلى المشي لمسافة طويلة، وأنا أراقب الناس ، مبهورة ، تتلاحق أنفاسي من الإثارة ..

 أخيراً بعد انتظار طال سأفطر في الحرم . حيثما نظرت كانت الجموع الغفيرة تتجه إلى وجهة واحدة .. مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بأيديهم زجاجات الماء ، أو صناديق التمور، أو بضع حبات من ( الشريك ) .

ولكننا لا نكاد نجد طريقاً .. فهاتفت سارة وأخبرتها أن الشوارع مزدحمة جداً ، وقد لا أتمكن من الوصول، إلا أنها توسلت إلي .. نعم هكذا حرفياً ، توسلت إلي أن أحاول جاهدة الاقتراب قدر الإمكان وأخذت تدعو لي أن أجد  منفذاً ، فكان إلحاحها عليّ بالمجيء دافعاً لأن أطلب من خالد المزيد من المحاولات ..

 كان خالد يرفض أن أنزل بعيداً رفضاً تاماً لعلمه بسرعة تعبي ، ولشدة الازدحام في هذه المنطقة، فكان يخشى علي من التعب ، ومن العدوى .

( خلاص ، أنزلي هنا يا أمي ، هذا أكثر ما أستطيعه )  بهذه الكلمات أيقظني خالد من شرود ذهني  .. نظرت ، فوجدت أننا نقف عند الباب الخلفي لإحدى الفنادق التي تطل على الحرم . نزلت بسرعة وعبرت من الباب الخلفي للباب الأمامي ، حيث  الساحة .. وأمامي الحرم !!

يا الله ، كم أحب الحرم .. كلما أمر به تهفو نفسي إليه ، وأقول : آآآه ، وحشني الحرم ..

أخيراً أنا هنا ؟ بعد غياب قرابة السبعة أشهر قبل  أول جلسة كيماوي ..

أحقاً أنا هنا لأفطر في الحرم .. أخيراً !!

الناس كنحل في خلية .. الساحة تغص بالصائمين وقد افترشوا السفر بانتظار الأذان .. رائحة رز ولحم تنبعث من زاوية، وفي أخرى رائحة ( الشريك) تسيل اللعاب ..

أين أنت يا سارة ؟ اتصلت عليها فحددت لي مكان اللقاء أمام بوابة قسم النساء بدون الأطفال..

شققت طريقي لها بين الزحام حتى إذا ما وجدتها ، كان علينا أن نشق طريقاً آخر لنصل إلى مكان سفرتها والتي كانت في أول صف في هذا المربع ، وفي أقصى اليمين ..

نظرت فإذا المكان ممتلئ لآخره .. وكما نقول ( ممتلئ حتى عينه ).. ولو شئت لقلت ( حتى شعره)..كيف يا سارة بالله عليك تريدينا أن نصل إلى هناك ؟

ولكن بالإرادة والتصميم نفعل المستحيل .. صارت تمشي تقودني وأنا أمشي وراءها ألهث .. تعبت من المشي .. وأحياناً أغطي أنفي وفمي باللثام ، وأحياناً أخرى أرفعه لأنه يكتم أنفاسي ، وذهني يحاول أن يبحث بين خلايا مخي التي صدئت بفعل الكيمو عن حديث ينهى عن تخطي الرقاب .. أكان الحديث في النهي عن تخطي الرقاب أثناء الصلاة أو تخطيها مطلقاً ؟

أحسست الآن بشعور طرزان ، فذاك كان يتنقل من شجرة إلى شجرة ، وأنا كنت أتبع سارة وأعبر السُفَر ، لم يكن مشياً في الواقع، كان يشبه القفز والمشي على الحبل .. أتخطى الرقاب وأحاول تفادي المشي على السفر التي يضع الناس عليها طعامهم ، أقف على رجل واحدة ، وأمد الثانية لأبعد ما أستطيعه في الجهة الأخرى من السفرة المعترضة ، وقد أفقد التوازن وأضطر إلى الاتكاء على إحدى النساء ..  ندوس على أقدام البعض أحياناً ، وتصطدم أرجلنا ببعض الكؤوس أو صحون التمر فنقلبها أحياناً أخرى ، وأنا بين هذا وذاك لا أزال أردد : أوه أنا آسفة ، سامحوني ، طريق لو سمحتوا ، شوية شوية ..

وفي منتصف الطريق التفتت لي سارة وكأنها مستكشف عظيم منطلق في سبر أغوار طريق جديد يوصل إلى أرض الفردوس، فرأتني غارقة في لهاثي وأنا أحمل حقيبتي وكيساً به حذائي ..

سارة طبعاً خفيفة الوزن ، وأنا ما شاء الله جيدة !! ومعي حمل لا بأس به في يدي .. فمدت يدها والتقطت مني حملي غير مبالية ياحتجاجي ، وقالت لي مشفقة من العدوى : ” وددت يا هناء لو تلثمت”.. وأكملت سيرها حتى وصلنا أخيراً إلى المكان المنشود ، في أول صف في هذا المربع .

أجلستني سارة على كرسيها الوثير حتى ألتقط أنفاسي وأخذت تعد الإفطار وتعرف صديقاتها علي بقولها : هذه هناء صديقتي ، وهي تفطر في الحرم لأول مرة ..فرحبن بي بحرارة وكلٌ تسارع لعرض ما عندها من طعام ، وسارة تقول : (نفك ريقنا أولاً ، ثم نأكل ) ..

قدمت لي ثلاث تمرات من عجوة المدينة الفاخرة ، وصبت لي كأس زمزم ( مبخّر ) من ثلاجتها، وجلسنا ندعو بعد أداء تحية المسجد ..

أذن المؤذن ونظرت سريعاً خلفي ، لأرى الجموع الغفيرة منهمكة في تناول الإفطار .. يا الله .. كم أحب هذا المنظر .. المنظر الذي كان دوماً يشدني ، ها أنا فيه الآن .. يا فرحتي !!

أرى في سفرتي الأخوات وهن يصببن ماء زمزم من الثلاجات لبعضهن البعض ،  ثم القهوة من الدلال التي أتوا بها من المنزل ، في جو غاية في الروعة والبهاء .. وبين الحين والآخر تأتي امرأة أو فتاة من السفرة المجاورة تطلب ماء مثلجاً، أو تمراً معيناً والأخوات يبذلن ذلك بكل فرح وسرور..

أنظر وأتعجب .. لو كانت هذه أخلاقنا خارج الحرم وخارج رمضان ، هل بقي مسكين أو فقير ؟

أقيمت الصلاة .. كان المسجد في لغط كبير ، إذ لا زال بعض الناس يأكلون ، ومنهم من كان ينظف منطقته من الفتات والعلب والكؤوس البلاستيكية ، فلما قرأ الإمام الفاتحة ، خفتت الأصوات بسرعة ملحوظة حتى لم  تعد تسمع إلا صوت سعلة هنا أو بكاء طفل هناك ..

ولما أمّن الناس ، شعرت بالمسجد يرتج بالتأمين بهدير يبعث القشعريرة في النفس .

سبحان الله ، ما  أعظم الصلاة في تعليمها المسلم النظام .. لكن المشكلة لا تكمن في الشعائر وإنما تكمن في النفوس  التي تعجب من تناقضها .. فحين تراها غاية في التنظيم والترتيب في الصلاة ، تجدها هي هي غاية في الإهمال و الفوضى خارجها .

انتهت الصلاة ، ومدت السفر ثانية لتناول الطعام .

حسناً ، لم يكن طعاماً بالطريقة التي قد تخطر في بالك .. لم تكن ثمّ شوربة وسمبوسة ولقيمات وعصير توت ، فهذه إن شئتها تجدها بالخارج .. في الساحة .. هناك مع الرز واللحوم والدجاج..

 لكن هنا لم يكن إلا الشريك والفتوت واللبن الزبادي و الدقة . يرشون الدقة فوق اللبن الزبادي ثم يقلّبونها ويتناولونها إما بالملعقة ، أو بالشريك .

قالت سارة : ” تمكنت من إدخال اللبن الذي تحبينه لك ” .. وأخرجت من حقيبتها زجاجة لبن متوسطة ، وأردفت : “خسارة ، كنت أود أن أجد اللبن المنزوع الدسم أو قليله ..كادت المفتشة التي عند الباب أن تأخذه مني ورفضت إدخاله في البداية ، لكني أخبرتها أن اللبن لصديقتي وهي مريضة ، وأن هذه أول مرة تفطر في الحرم ، فسمحت لي ” وضحكت ..

 ثم أخرجت صحناً بلاستيكياً مغلفاً فيه جبن القشقوان الأثيرة لدي ، وقالت :”  الحمد لله أنها لم تلحظ الجبن ” .. وتناولت قطعة كبيرة من الفتوت ، قطعتها من المنتصف وحشتها بالجبن ونثرت عليها بسخاء من الدقة التي صنعتها والدتها وناولتني إياها ..

كم أسرتني سارة بمعروفها .. مثل سارة يُخدم .. فهي حاصلة على السند في القرآن الكريم من الشيخ إبراهيم الأخضر أحد أئمة الحرم النبوي القدماء ، وعندها خمس قراءات.. وكثير من النساء يقصدنها ليقرأن عليها بعضاً من الآيات فتصحح لهن قراءتهن .. كما أنها من عائلة عريقة وثرية ، فمثلها في الحقيقة يُخدم.. وها هي الآن ، تؤثرني بمقعدها المريح وتجلس على الأرض أو على كرسي صغير ،  وتصنع لي طعامي ، وتناولني ما أحتاج من قبل أن أطلبه ، تقرأ نظراتي ، وتخمن ما أريد ..

وأنا غارقة في خجلي منها . لا أحب أن أضايق أحداً بأن آخذ مكانه أو طعامه أو أتعبه معي ، ولكنها فعلت كل هذه الأمور ببساطة شديدة وعفوية محببة ، جعلتني أهتف أخيراً : سارة .. سأكتب اسمك في كتابي .. فضحكت، وقالت : إذن أكتبي ( ذهبت إلى الحرم مع صديقتي  الفاتنة سارة ) !!

Read Full Post »

هذه قصة استوحيتها من مشهد وقع أمامي أيام جلسات الإشعاعي .. لأم وابنتها الكبيرة .. كبيرة حقاً ولعل هذا ما كان يؤلم :

 

اليوم موعدي لأخذ العلاج الإشعاعي .. منذ أن أصبت بسرطان القولون وأنا أتخبط تحت وطأة العلاجات ؛ عمليات ، كيماوي ، إشعاعي ، أدوية  ..

يا رب ، ارحمني ، فقد أنهكت كل هذه العلاجات  جسدي الواهن ..

ولكن ، أين من كل هذا ما يعانيه قلبي .. الآن.. صرت أشغل أبنائي وبناتي معي .. خمسة أيام من كل أسبوع ، لخمسة أسابيع متواصلة .. أحدهم يوصلني إلى المستشفى ، والأخرى تدخل معي وتنتظرني بالخارج إلى أن أكمل الجلسة ..

كم هو ممض الألم الذي أجد في قلبي حين أستحوذ على وقت أولادي وأفكارهم .. لا أريد أن أشغلهم .. عندهم من المشاغل والهموم ما يكفي لتأريقهم ..

 أرى التأفف يتقافز بشغب من عيني ابنتي الكبرى إحسان ، وهي تطقطق بجوالها تلعب أو تكتب رسالة ، في حين أحدثها أنا عن مخاوفي من التأخير عن الموعد أو أن لا تكون “بدور” فنية الإشعاعي اللطيفة في دوامها .. أسألها عن حال ابنتها العروس التي أصيبت مؤخراً بالانفلونزا  ، فتغمغم بشيء لم يتبينه سمعي الثقيل ، فإذا عاودت سؤالها أجابتني : أففف ،  كويسة يا أمي ، كويسة !!

أصمت .. مسكينة .. قلبها على ابنتها يتمزق .. لهذا أجد صوتها جافاً معي  .. لهذا أجدها نافذة الصبر وهي تقودني على مقعدي المتحرك إلى غرفة العلاج .. لهذا أجدها تنهرني أحياناً إذا ما أكثرت عليها طلب الجلوس لترتاح ، لهذا أجدها متلهفة للرجوع إلى البيت فلا يكاد السائق ينزلني في بيتي حتى تحثه بسرعة على الانطلاق إلى بيتها .

مسكينة .. أنا أقدر ظرفها ، فمواعيد جلساتي في الثالثة عصراً .. وقت رجوع الأولاد من المدارس ، ووقت الغداء ، ووقت الراحة والقيلولة ..جزاها الله خيراً !! تتعب كثيراً إحسان من أجلي !!  يالله ، اجزها خيراً على إحسانها لي !!

لكن لا أدري ما سر هذه الخيالات التي أضحت تراودني .

 كلما أسمع نبرة غريبة في صوت إحسان لا أفهمها ( يبدو أنها نبرة الحزن على ابنتها العروس ) تتداعى إلى ذهني صور باهتة .. قديمة .. بالأبيض والأسود هي ، وبعضها مقطعة الأطراف .. تفوح منها رائحة القدم ، ولكنها بحق رائحة زكية ، عذبة .. فيها حب وعواطف ومشاعر جياشة .. رائحة تغمر قلبي بالسكينة والجمال ..

 إحسان وهي صغيرة .. تحبو كالحمل الصغير ، حلوة المحيا ، بسن واحدة ، تغري من يراها أن يلثمها .. تقترب مني ثم تقع على وجهها عند قدمي فتبكي ، فيكاد قلبي لها أن يطير .. أحملها وأشمها وأعتنقها وأقبلها ..

إحسان وهي مراهقة .. أنظر إليها وقد رهقتها تغيرات الهرمونات .. عصبية ، سريعة الثورة ، وسريعة الرضا والصفح .. كثيرة شرود الذهن ، حالمة .. ووحيدة .. يتألم قلبي لها ، ولكني سرعان ما أعود وأقنع نفسي أنها تغيرات مؤقتة كسحابة صيف لن تلبث وتنقشع .

إحسان وهي عروس .. جميلة في ثوبها الأبيض الذي بعت بعضاً من ذهبي لأبتاعه لها .. لترضى .. قلبي يبكي وشفتاي تضحكان وأنا أزفها لزوجها تحت أنوار كاميرات التصوير وأنظار الفضوليات من المدعوات . أخشى عليها العين ، ولؤم الحماة ، وقسوة الزوج ، ووطأة الحياة ، وفراقها عني .

وهاهي الآن ، بعد أن صارت أماً لعروس ، عانت من نفس ما عانيت .. هي الآن ابنتي الكبرى ، ترافقني لجلسات الإشعاعي ، خمسة أيام من كل أسبوع لخمسة أسابيع متصلة .. تركت زوجها وأولادها والغداء والراحة بعد يوم عمل مرهق في إدارة مدرسة ثانوية ، تركته لتصحبني إلى المستشفى ..

يبدو أن ذهنها مشغول بابنتها .. فقد غضبت الأسبوع الماضي لما ألححت عليها أن تعطي ورقة الموعد ” للسستر ” في مكتب الاستقبال خشية ضياع الموعد ، ونهرتني البارحة لما ألححت عليها أن تجلس لتريح قدميها المصابتين بالدوالي ، وكل يوم تمر علي لا تكاد تضحك في وجهي إلا لماماً !

رب أرح قلبها كما تريحني ! واشف ابنتها لتستعيد إحسان ضحكتها الصافية !

Read Full Post »