متع مبهجات : استجلاب الذكريات 2
6 أفريل 2013 بواسطة هناء
هل تصبرون معي لقراءة ذكريات لن تهمكم ، لعلكم تجدون في بعضها بعضاً منكم ، فالذكريات كثيراً ما تتشابه ، وما ألذ حديث الذكريات السعيدة ، وهي لعمر الله من المتع المبهجات..
إن لم تطلع على الجزء الأول من استجلاب الذكريات ، فلعلك تفعل الآن ..
في الإجازة الصغيرة منتصف الفصل الدراسي ذهبت في زيارة شائقة إلى الذكريات .. إلى مسقط رأسي .. إلى الخبر الجميلة على الساحل الشرقي .
كانت هذه المرة الأولى التي تجتمع فيها كل هذه العوامل معاً منذ 31 سنة : أذهب أنا وأمي أخي إلى الخبر لأرى جميع أهلي هناك .
هل لي أتحدث عن انطباعاتي عن تغير الدرجة الأولى في الخطوط السعودية عنها قبل ثلاثين سنة وتردي خدماتها ومقاعدها ووجباتها أم أجعل التدوينة خالصة لسرد الذكريات ؟
لا داعي لحرق الدم ، أليس كذلك ؟ حسناً , لننطلق إلى الساحل الشرقي .
حين هبطت في المطار الجديد – بالنسبة لي – هالني حجمه ورقيه مقارنة بمطار جدة التعيس في جميع نواحيه ..
يكفي الخراطيم التي تنقل المسافرين من وإلى الطائرة في حين لا يزال مطار جدة يعيش على الباصات والسلالم .
عذراً عذراً ، وعدتكم أن لن أتكلم بما يحرق الدم ..
تذكرت وأنا أمشي في مطار الملك فهد مطارَ الظهران القديم .. شعرت أن طعم الذكريات في حلقي .. أحسست بالروائح والمشاعر تتلبسني . هل تعرف هذا الشعور ، حينما تستغرق في تفاصيل ذكريات قديمة ، وتنفصل عن الواقع تدريجياً حتى لتكاد تشعر بحرارة الهواء آنذاك على جلدك ، تستنشق تلك الروائح وتسمع تلك الأصوات ..
كنت أمشي كالمغيبة ، منبهرة ومنتشية ، لا من هذا المطار الجديد ، وإنما من ذاك الذي برز في مخيلتي ، حين كان أبي رحمه الله يأخذني وأنا صغيرة لنقضي بعض الوقت نتفرج على الطائرات وهي تصعد وتهبط ريثما تقضي أمي زيارتها لصديقتها التي كانت تسكن في سكن المطار الفاخر . كان المدرج قريباً ومتاحاً ويحكي لي أخي أنه كثيراً ما أفلح حين كان طفلاً في الإفلات من بين قضبان السور ليمشي بحرية في مدرج المطار .. أخبرته أني لا زال أذكر في المطار وجود حديقة ما تنضح بعشب قوي الرائحة ، وفيها مراجيح معلقة ، فأطرق بذاكرته إلى خمسين سنة مضت ليقول بصوت حالم : كانت تلك حديقتي المفضلة حينما كنا نسكن في المطار قبل انتقالنا إلى الخبر ..
كلما شممت الآن رائحة العشب الأخضر تدرج ذاكرتي تلقائيا صورة تلك الحديقة التي كنت ألعب فيها وأنا ابنة الخامسة ، أتمرجح عالياً مع أطفال آخرين لا أعرفهم ، لا يجمع بيننا إلا صخب الطفولة ..
من قال أن أطفال الخامسة والسادسة تكون ذاكرتهم قصيرة ولا تسعفهم بتفاصيل تلك الحُقب حين يشيبون ..
لو قال بذلك قائل فأنا أؤكد له أنه مخطئ بجدراة .
كان اجتماعنا ليلة الوصول في بيت خالتي لتناول العشاء . دخلت البيت الجديد وتذكرت ذلك البيت القديم الذي كنا نقضي فيه أعيادنا بعد انتقال عائلتي للسكن في جدة قبل أربعين سنة .
كان العيد في جدة مؤلماً وكئيباً وموحشاً حيث لم يكن لدينا هناك إلا بيوت أخوالي فقط ، الذين لم ننشأ معهم ولم نألفهم بعد . كم حاولت أمي تزيين عيدي بفساتين جميلة وزينات مزركشة وأنوار ملونة ، وتأخذني في زيارة لملاهي لونا بارك عصر يوم العيد ، ولكن ما كان ذلك ليفلح في إسعادي وإبعاد ذكريات أعياد الخبر عن ذهني .
إلى أن قررت أن نذهب بعد ذلك لقضاء العيد مع الأهل ..
الأهل .. يالها من كلمة جميلة عظيمة .. عندها شعرت أن العيد قد عاد له رونقه وبهاءه وجماله .
كنت أجمع من مصروفي الشهري طوال السنة لأشتري به هدايا العيد البسيطة لخالاتي وبنتي خالتيّ اللتين كانتا – ولا زالتا- أختين حين منعني الله الأخوات الحقيقيات .
كان العيد في بيت خالتي من أجمل ما يمكن أن يحدث لي .. اجتماع العائلة الممتع ، إفطار اليوم الأخير من رمضان، إعداد الزينة من ورق الكريشة الملونة ، والإحساس بالأهمية وسط كل هؤلاء الكبار ، محاولات إخفاء الهدايا المغلفة سلفاً عن أعين الفضوليين من الصغار .. حتى غسل الصحون هائلة العدد كان ممتعاً ما دام مع القوم .
والان أنا أدخل الدار التي فيها نفس الأشخاص الذين كنت أقضي معهم أعيادي القديمة .. إلا أن الدار غير الدار .. هل أزعم أن قيساً كذب بعض الشيء ليضفي نوعاً من الرومانسية على قصته حين قال :
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
هذه دار جديدة ، أنيقة ولكن ليس فيها أياً من الذكريات . ليس فيها تلك المخابئ التي احتوتنا صغاراً ، ولا بقايا اللصاق الذي ثبتنا به زينة العيد ، ولا الجدران التي كانت تسترق السمع لأحاديثنا ليلاً بعد أن ينام الكبار .
كذب قيس – غفر الله له – فحب الديار له شغف ووجد ، خاصة لو حَوَت لحظات جميلة .
في اليوم التالي اصطحبني أخي في الصباح المبكر مع بناتنا لنبحث عن ذكرياتنا القديمة .. مررنا بشارع الأمير خالد ، شارع السوق الكبير في زمني .. رأيت هذا المحل الجميل الذي كان يجلب البضائع المستوردة ، ومنه كانت أمي تشتري ألعابي الفاخرة . تذكرت للحال لعبة طابور البطات الصغيرات اللاتي يمشين وراء البطة الأم ، والتلفزيون الصغير الذي يعرض صوراً متحركة بأناشيد الأطفال الانجليزية المشهورة : ماري عندها حمل صغير ، وجسر لندن يسقط ويسقط .. رأيت الشارع الضيق الذي كنت أراه كبيراً ، وما علمت إذ ذاك أن عيون الأطفال ترى كل شيء كبيراً .
مشينا قليلاً فإذا بي أمام مدرستي .. صارت الآن مأوى لعمالة ما ، مهدمة ومرقعة ، ولكني أبحرت في فصولها ودهاليزها بذاكرتي .. هنا كان فصلي .. وهنا مستودع الكتب الدراسية التي كانت تسحرني رائحتها .. وهذا المسرح الذي كنت أقف عليه لأنشد في الحفلات .. أما هنا فحجرة التدبير المنزلي .. أتذكر جيداً حين كان موقد حجرة التدبير يعطب فينادونني من فصلي لآخذ صينية البشاميل لبيتنا الذي لا يفصله عن المدرسة إلا شارع صغير ضيق ، فأعطيها لأمي مصحوبة بسلام المعلمة كي تضعها في فرننا حتى تنضج .. لا تسل عن اعتزازي وشعوري بالخطورة وأنا أخرج أمام صديقاتي شامخة الرأس ، فخورة للعبي دور المنقذة من هذا الموقف السخيف الذي سببه الفرن الكهل .
جلت ببصري أبحث عن بيتنا فارتد إلي بصري خاسئاً وهو حسير .. ما وجدت إلا دكاكين صغيرة تتثاءب استعداداً لبداية يوم جديد .. أحسست بشيء من القهر .. أين ذكرياتي ؟ هنا كان بيتنا .. أذكر في فنائه بيت أرانب صغير، وحجرة إخواني بالطابق العلوي ملأها أخي الماهر بالرسم رسوماً متقنة للشخصيات الكارتونية المعروفة آنذاك ، أذكر القطط التي كانت تجول ، ومن هناك نما شغفي بالقطط . أذكر شجرة الفل والتي كانت تهبني يومياً فلة ضخمة عبقة أهديها لمعلمتي في الصف الأول الابتدائي ..
شعرت بشيء من الإحباط وخيبة الأمل ، ولكني سرعان ما نفضته عن ذهني قائلة : أصلا عادي !
أما عن زيارتي لشواطئ الخبر فتلك حكاية أخرى .. شواطئهم غاية في الروعة والجمال .. شواطئ “متعوب عليها” ، والجميل أنها للشعب .. لكل الشعب .. كل الشعب يستطيعون أن ينزلوا في الشاطئ ويستمتعوا بالبحر والرمل ..
هنا ، في شاطئ العزيزية أو في شاطئ نصف القمر والذي لا نزال نسميه بتسميته القديمة جداً Half Moon Bay ، كنا نقضي أول يوم من أيام عيد الأضحى قبل أكثر من ثلاثين سنة .. نبحث عن بقعة فارغة ، غالباً خلف أحد الطعوس المجاورة للشاطئ ونخيم مع عائلة خالتي .. نسبح ونشوي ونتسامر و ( نشب الضو ) ونقضي أجمل الأوقات دون أن يتطفل علينا أحد من الخارج .. كنا إذا وصلنا انطلق زوج خالتي في ممارسة هوايته في المشي ، فيمشي حتى يغيب عن أنظارنا .. قد ألحق يه إلى مسافة معينة ، أبثره بأسئلتي وثرثرتي ولكنه كان دائماً يجيب بابتسامة عذبة وصدر رحيب .. كم تمنيت أن أراه هذه المرة .. ولكن الزهايمر ثم الموت غيّباه عنا ، فتوفي قبل أن ألقاه لأذكّره بكل ما مضى.
حديث أيام الطفولة عذب .. ذكراها لذيذة ، ونشواها تفرح القلب الحزين .. وعلى آثارها نعيش لحظات جميلة .
غادرت الخبر آسفة .. كم تمنيت لو جلست هناك أسابيع ..
يومها قلت لإحداهن : لولا أني في المدينة ، ولا أرضى لها بدلاً لرجعت أعيش في الخبر ..
أطلت عليكم ، سامحوني ، ولكن يخفف عني أني أعلم يقيناً أن بعضكم كان له ذكريات تشبه ذكرياتي . وسأحب حتماً لو شاركتموني بهذه المتعة : استجلاب الذكريات .
0.000000
0.000000
أرسلت فى Uncategorized, متع مبهجات | مصنف متع, الأخوة, الحب, الخطوط السعودية, السفر, ذكريات | 4 تعليقات
ذكرياات !!!!
انا حياتي كلها شرقية
وهوائي بحري
أقبل تراب الشرقية والخبر بالذات
أجمل ايام حياتي عشتها هناك
وبالذات في القاعدة الجويه بجوارالمطار القديم 😭
تأبي الأيام ان انسى حقبة رائعة عشتها من حياتي هناك
وهيهااات أن انسى
كلما اقرأ تدويناتك , اشعر بفرح ونشوة وبرغبه ملحه بالكتابه ….
انا ايضا بنت الخبر الشماليه ولكنني الان انتقلت وليس بعيدا جداا , ولكن كلما ممررت بحينا السابق والاسواق والبقالات والخضار والمغسله والمخبز , احس بفتقاد كبيير لهذة الاماكن واشتهي ان اعود بشقاوتي وطفولتي الجميلة ..
اشكرك من كل قلبي , لانك تساعدينني في رؤية الحياة بمنظور اجمل
” طلب صغير لاتتاخري علينا بالتدوين ”
عبير
مع أن المدينة غير المدينه .. إلا أن طعم الذكريات جميل ؛ لا أزال أذكر تفاصيل صغيرة لذيذة .. طعم كعك عمتي المميز ..وكريم كراميل خالتي المشهورة به..رائحة غرفة جدتي و شعور السعاده بتلركوب مع جدي في سيارته..مغامرات خالي و دراجة عمي الحمراء النارية .
ذكريات ذهبت ولكنها محفورة في الأذهان .سقى الله تلك الأزمان.
ياعزيزتي كلماتك تارة تدغدغ عقلي وتارة تدغدغ قلبي ومشاعري واحاسيسي بالرغم اني لم اعش بالخبر ولم اتربى فيها الا ان كلامك عن الذكريات مس جوانب عديدة من ذكريات مماثلة لذكريات فهيجت الحنين لمرحلة الطفولة في جدة وحضن أمي الدافيئ ومقالب اخوانب وشقاوتهم
لله درك ياأم