هناك ثمة احتمال شبه قوي في أن أذهب لتناول إفطاري في الحرم ..
تداعت علي ذكريات العام الماضي .. في مثل هذا اليوم ، ليلة الثالث والعشرين حدثت معي قصة جميلة ، لم أكن لأنساها ،وكتبت عنها فصلاً في كتابي المرتقب أ، وأسميته ( الفصل لا الكتاب ) : صديقتي الفاتنة سارة !
اعذروني لإعادتها هنا ، ولكنها تبهجني حقاً ، ولعلها تبهجكم .
اليوم الأربعاء وقد دخلت العشر الأواخر ..
وأولادي صاروا يتناولون طعام الإفطار في الحرم مع ( السفرة ) ..
أتراني أستطيع أن أفطر في الحرم ؟
كنت كلما أنتظر أذان المغرب أمام شاشة التلفاز ، وأشاهد الجموع الغفيرة وهي تتناول إفطارها في تكافل وود ، وكلٌ يدعو الآخر لمشاركته ( الشريك ) أو ( الحيسة ) ، ويصبون القهوة لبعضهم البعض ، وأمام كل واحد منهم علبة اللبن الزبادي ، يأكل منه مع الدقة بتلذذ ، و تهفو نفسي لمشاركتهم هذا الجو الرحيم..
كل يوم كنت أقول : الله .. نفسي أفطر في الحرم .
وكل يوم كان خالد يقول : أوديكي بكرة ..
وكل يوم كنت أتراجع عن الفكرة لعدم رغبتي في الذهاب من الساعة الخامسة لأجد مكاناً ..
لم يكن بمقدوري أن أجلس على هيئة واحدة لأكثر من نصف ساعة ..
كما تعلمون .. رجلي اليمنى تؤلمني جداً..
لكن لما دخلت العشر الأواخر ، وازداد غياب أولادي بسبب ( السفرة ) و التهجد ، فكرت جدياً هذه المرة..
حادثت صديقتي سارة ، وأخبرتها برغبتي ، فتواعدنا ليلة الثالث والعشرين في مكان معين تفطر فيه مع بعض معارفها.
ويبدو أن خطئي الأكبر كان خروجي من البيت في السادسة إلا ربعاً ..
لما وصلنا إلى الحرم ، كانت مواقف السيارات السفلية قد أُغلقت لامتلائها ، والشوارع مزدحمة بالناس وهم يتجهون إلى الحرم ومعهم في أيديهم زواداتهم ..
كان خالد يبحث جاهداً عن مدخل من هنا وهناك يقربنا إلى الحرم حتى لا أضطر إلى المشي لمسافة طويلة، وأنا أراقب الناس ، مبهورة ، تتلاحق أنفاسي من الإثارة ..
أخيراً بعد انتظار طال سأفطر في الحرم . حيثما نظرت كانت الجموع الغفيرة تتجه إلى وجهة واحدة .. مسجد رسول الله r ، بأيديهم زجاجات الماء ، أو صناديق التمور، أو بضع حبات من ( الشريك ) .
ولكننا لا نكاد نجد طريقاً ..
فهاتفت سارة وأخبرتها أن الشوارع مزدحمة جداً ، وقد لا أتمكن من الوصول، إلا أنها توسلت إلي أن أحاول جاهدة الاقتراب قدر الإمكان وأخذت تدعو لي أن أجد منفذاً ، فكان إلحاحها علي بالمجيء دافعاً لأن أطلب من خالد المزيد من المحاولات ..
كان خالد يرفض أن أنزل بعيداً رفضاً تاماً لعلمه بسرعة تعبي ، ولشدة الازدحام في هذه المنطقة، فكان يخشى علي من التعب ، ومن العدوى .
( خلاص ، أنزلي هنا يا أمي ، هذا أقرب ما أستطيعه ) ..
بهذه الكلمات أيقظني خالد من شرود ذهني ..
نظرت ، فوجدت أننا نقف عند الباب الخلفي لإحدى الفنادق التي تطل على الحرم .
نزلت بسرعة وعبرت من الباب الخلفي للباب الأمامي ، حيث الساحة ..
ورأيت الجمال والجلال .. رأيت الحرم !!
يا الله ، كم أحب الحرم ..
كلما أمر به تهفو نفسي إليه ، وأقول : آآآه ، وحشني الحرم ..
أخيراً أنا هنا ؟ بعد غياب قرابة السبعة أشهر قبل أول جلسة كيماوي ..
أحقاً أنا هنا لأفطر في الحرم .. أخيراً !!
الناس كنحل في خلية ..
الساحة تغص بالصائمين وقد افترشوا السفر بانتظار الأذان ..
رائحة رز ولحم تنبعث من زاوية، وفي أخرى رائحة ( الشريك) تسيل اللعاب ..
أين أنت يا سارة ؟
اتصلت عليها فحددت لي مكان اللقاء أمام بوابة قسم النساء بدون الأطفال..
شققت طريقي لها بين الزحام حتى إذا ما وجدتها ، كان علينا أن نشق طريقاً آخر لنصل إلى مكان سفرتها والتي كانت في أول صف في هذا المربع ، وفي أقصى اليمين ..
نظرت فإذا المكان ممتلئ لآخره .. وكما نقول ( ممتلئ حتى عينه ).. ولو شئت لقلت ( حتى شعره)..
كيف يا سارة بالله عليك تريدينا أن نصل إلى هناك ؟
ولكن بالإرادة والتصميم نفعل المستحيل ..
صارت تمشي تقودني وأنا أمشي وراءها ألهث ..
تعبت من المشي ..
وأحياناً أغطي أنفي وفمي باللثام ، وأحياناً أخرى أرفعه لأنه يكتم أنفاسي ، وذهني يحاول أن يبحث بين خلايا مخي التي صدئت بفعل الكيمو عن حديث ينهى عن تخطي الرقاب .. أكان الحديث في النهي عن تخطي الرقاب أثناء الصلاة أو تخطيها مطلقاً ؟
أحسست الآن بشعور طرزان ، فذاك كان يتنقل من شجرة إلى شجرة ، وأنا كنت أتبع سارة وأعبر السُفَر ، لم يكن مشياً في الواقع، كان يشبه القفز والمشي على الحبل .. أتخطى الرقاب وأحاول تفادي المشي على السفر التي يضع الناس عليها طعامهم ، أقف على رجل واحدة ، وأمد الثانية لأبعد ما أستطيعه في الجهة الأخرى من السفرة المعترضة ، وقد أفقد التوازن وأضطر إلى الاتكاء على إحدى النساء ..
نطأ على أقدام البعض أحياناً ، وتصطدم أرجلنا ببعض الكؤوس أو صحون التمر فنقلبها أحياناً أخرى ، وأنا بين هذا وذاك لا أزال أردد : أوه أنا آسفة ، سامحوني ، طريق لو سمحتوا ، شوية شوية ..
وفي منتصف الطريق التفتت لي سارة وكأنها مستكشف عظيم منطلق في سبر أغوار طريق جديد يوصل إلى أرض الفردوس، فرأتني غارقة في لهاثي وأنا أحمل حقيبتي وكيساً به حذائي ..
سارة طبعاً خفيفة الوزن ، وأنا ما شاء الله جيدة !! ومعي حمل لا بأس به في يدي .. فمدت يدها والتقطت مني حملي غير مبالية ياحتجاجي ، وقالت لي مشفقة من العدوى : ” وددت يا هناء لو تلثمت”.. وأكملت سيرها حتى وصلنا أخيراً إلى المكان المنشود ، في أول صف في هذا المربع .
أجلستني سارة على كرسيها الوثير حتى ألتقط أنفاسي وأخذت تعد الإفطار وتعرف صديقاتها علي بقولها : هذه هناء صديقتي ، وهي تفطر في الحرم لأول مرة ..
فرحبن بي بحرارة وكلٌ تسارع لعرض ما عندها من طعام ، وسارة تقول : (نفك ريقنا أولاً ، ثم نأكل ) ..
قدمت لي ثلاث تمرات من عجوة المدينة الفاخرة ، وصبت لي كأس زمزم ( مبخّر ) من ثلاجتها، وجلسنا ندعو بعد أداء تحية المسجد ..
أذن المؤذن ونظرت سريعاً خلفي ، لأرى الجموع الغفيرة منهمكة في تناول الإفطار ..
يا الله .. كم أحب هذا المنظر ..
المنظر الذي كان دوماً يشدني ، ها أنا فيه الآن .. يا فرحتي !!
أرى في سفرتي الأخوات وهن يصببن ماء زمزم من الثلاجات لبعضهن البعض ، ثم القهوة من الدلال التي أتوا بها من المنزل ، في جو غاية في الروعة والبهاء .. وبين الحين والآخر تأتي امرأة أو فتاة من السفرة المجاورة تطلب ماء مثلجاً، أو تمراً معيناً والأخوات يبذلن ذلك بكل فرح وسرور..
أنظر وأتعجب ..
لو كانت هذه أخلاقنا خارج الحرم وخارج رمضان ، هل بقي مسكين أو فقير ؟
أقيمت الصلاة ..
كان المسجد في لغط كبير ، إذ لا زال بعض الناس يأكلون ، ومنهم من كان ينظف منطقته من الفتات والعلب والكؤوس البلاستيكية ، فلما قرأ الإمام الفاتحة ، خفتت الأصوات بسرعة ملحوظة حتى لم تعد تسمع إلا صوت سعلة هنا أو بكاء طفل هناك ..
ولما أمن الناس ، شعرت بالمسجد يرتج بالتأمين بهدير يبعث القشعريرة في النفس .
سبحان الله ، ما أعظم الصلاة في تعليمها المسلم النظام .. لكن المشكلة لا تكمن في الشعائر وإنما تكمن في النفوس التي تعجب من تناقضها ..
فحين تراها غاية في التنظيم والترتيب في الصلاة ، تجدها هي هي غاية في الإهمال و الفوضى خارجها .
انتهت الصلاة ، ومدت السفر ثانية لتناول الطعام .
حسناً ، لم يكن طعاماً بالطريقة التي قد تخطر في بالك ..
لم تكن ثمّ شوربة وسمبوسة ولقيمات وعصير توت ، فهذه إن شئتها تجدها بالخارج ، في الساحة مع الرز واللحوم والدجاج..
لكن هنا لم يكن إلا الشريك والفتوت واللبن الزبادي و الدقة .
يرشون الدقة فوق اللبن الزبادي ثم يقلّبونها ويتناولونها إما بالملعقة ، أو بالشريك .
قالت سارة : ” تمكنت من إدخال اللبن الذي تحبينه لك ” ..
وأخرجت من حقيبتها زجاجة لبن متوسطة ، وأردفت : “خسارة ، كنت أود أن أجد اللبن منزوع الدسم أو قليله ..كادت المفتشة التي عند الباب أن تأخذه مني ورفضت إدخاله في البداية ، لكني أخبرتها أن اللبن لصديقتي وهي مريضة ، وأن هذه أول مرة تفطر في الحرم ، فسمحت لي ” وضحكت ..
ثم أخرجت صحناً بلاستيكياً مغلفاً فيه جبن القشقوان الأثيرة لدي ، وقالت :” الحمد لله أنها لم تلحظ الجبن ” ..
وتناولت قطعة كبيرة من الفتوت ، قطعتها من المنتصف وحشتها بالجبن ونثرت عليها بسخاء من الدقة التي صنعتها والدتها وناولتني إياها ..
كم أسرتني سارة بمعروفها ..
مثل سارة يُخدم ، فهي حاصلة على السند في القرآن الكريم من الشيخ إبراهيم الأخضر أحد أئمة الحرم النبوي القدماء ، وعندها خمس قراءات، وكثير من النساء يقصدنها ليقرأن عليها بعضاً من الآيات فتصحح لهن قراءتهن ..
كما أنها من عائلة عريقة وثرية ، فمثلها في الحقيقة يُخدم ..
وها هي الآن ، تؤثرني بمقعدها المريح وتجلس على الأرض أو على كرسي صغير ، وتصنع لي طعامي ، وتناولني ما أحتاج من قبل أن أطلبه ، تقرأ نظراتي ، وتخمن ما أريد ..
وأنا غارقة في خجلي منها ، لا أحب أن أضايق أحداً بأن آخذ مكانه أو طعامه أو أتعبه معي ، ولكنها فعلت كل هذه الأمور ببساطة شديدة وعفوية محببة ، جعلتني أهتف أخيراً : سارة .. سأكتب اسمك في كتابي..
فضحكت، وقالت : إذن أكتبي ( ذهبت إلى الحرم مع صديقتي الفاتنة سارة ) ..