حينما كتبت تدوينتي السابقة عن القراءة في الكتب الورقية ، فكرت بعدها في إنشاء سلسلة من التدوينات تحكي عن بعض المتع التي تبهج النفس ( نفسي أنا على الأقل ). فكان طبيعياً أن تلي الكتابةُ الورقية القراءةَ في الكتب الورقية .
أنا من جيل تربي على القلم والدفتر .. كنا نكتب ساعات معدودة وبصبر لا ينفد القطع المطولة في كتاب القراءة ، ولا أنسى حينما كنت في الصف الأول الابتدائي زرت بعض صديقاتي وكانت في مثل سني الدراسية وتنسخ قطعة ما .. كنت أنظر لها وهي تكتب الصلعمة المزخرفة التي نراها في الكتب فأشعر فعلاً بالتحطم .. كانت ترسمها رسماً وأنا خائبة في الرسم ( وليس من متعي المبهجة بالتأكيد ) ، كنت أحاول تقليدها لكن لا فائدة ..
و في الثانوية كنا نحل تمارين القواعد في الدفتر ، ثمانية أو تسعة تمارين ، يتألف كل تمرين من ثمان فقرات ، كلها ننسخها في دفتر ( أبو ثمانين ) ثم نحلها فقط لتشخط عليها المعلمة القديرة بكلمة ( نظر ) ، ويالها من كلمة سخيفة ، فلا هي بالتي تحفز على الإتيان بالمزيد من الإبداع ، ولا بالتي تلفت النظر إلى مواطن الخلل – إن كان ثمة شيء منه –
كانت – ولا زالت – متعتي القصوى بعد التجول بين دواليب المكتبات هي التجول بين أرفف القرطاسيات .. أحب الدفاتر الزاهية والأقلام الملونة .. أحب أن أشتري أدوات القرطاسية كما تحب النساء شراء ألوان المناكير والأرواج ( ما تعريب هذه الكلمة ؟ ) أشعر أني أعيش في عالم جميل حالم ، أجول بين أروقته كما يجول الطفل في دكان الحلوى ، تزيغ نظراته هنا وهناك ، يود لو أنه جمع كل شيء في ثوبه .. لذا فإني أنتظر أول كل فصل دراسي بفارغ الصبر لأذهب للقرطاسية وأدخلها قبل أولادي لأستمتع بشراء ما يحتاجونه للمدرسة . ولما أصبت بالسرطان وضعفت عن الحركة صرت أكتفي بإرسال أحد أولادي بورقة كبيرة فيها الاحتياجات المطلوبة لأمارس متعة توزيعها عليهم كما يوزع المدير شهادات النجاح ..
كان شعوراً طاغياً بالسعادة حينما أستلم بيدي رسالة أو بطاقة مكتوبة عليها أختام بريدية من أمريكا حيث كان أخي يدرس ، أفضها بانبهار وأقرؤها بسرعة شديدة ثم أعود فأقرؤها بتروي ، وأثلّث قراءتها ، أتفحص النقاط والحركات ، وتدويرة الجيم في آخر الكلمة وأسنان السين والشين .. ثم ألتقط القلم بدوري وأخط رسالة أرد فيها على رسالته وأكتب وأكتب ، ثم أضع الرسالة في الظرف وأتفنن في كتابة العنوان باللغة الانجليزية ، وأحبّر خطي المبعثر ، وأزخرف حرف H الذي يبدأ به اسمي في محاولة طفولية للضحك على الذات بأن الخط لا بأس به على الإطلاق ، والدليل هذه الإتش الرائعة !!
ولما كبرت وصرت أطلب العلم وأفرغ أشرطة المشايخ مارست متعة شراء الدفاتر والأقلام الملونة من أجل التفريغ فكنت أكتب بسبعة ألوان كتابة منمقة – وإن كانت سريعة – ، وإذا لم يعجبني الخط أو امتلأت الصفحة بالأخطاء الكثيرة فإني لا أتردد أبداً في تمزيقها وإعادة كتابتها ، لأني أريد صفحة نظيفة تسر الناظرين . ولا أحصي كم من المرات تركت دفاتري مشرعة على سطح مكتبي لأؤدي صلاة أو أصنع طعاماً فأرجع فأجد رسوماً سيريالية تغطي أسطري أبدعتها أنامل صغيرة فنانة ، أو أجد الدفتر بأكمله يشرب ويرتوي من ماء صُب عليه صباً فتسيح الأحرف وأصرخ أنا محاولة إدرك ما يمكن إدراكه ..
فلما وفدت إلي بيتنا التقنية اضطررت إلى اللجوء إلى الكمبيوتر في كثير من الأحيان لأحفظ وثائقي وخواطري من الضياع ، فقل استخدامي للقلم ، وبالتالي ساء خطي جداً .
والآن ، كلما أردت كتابة شيء ما ، كتفريغ شريط أو تدوين خواطر تنفعني في كتبي المستقبلية أو مدونتي أكاد أعرف كيف يشعر طفل السنة التمهيدية حينما يحاول الكتابة ، الخط كبير ، الأحرف معوجة .. سبحان الله ، كيف تهدرالكثير من المعارف الجميلة والمهارات العالية بسبب قلة الممارسة .
أشعر أن هذه الموهبة والمتعة تكاد تُسلب مني تحت طغيان الكمبيوتر الجارف .. لابد أن أقاوم !!