25 جويلية 2016 بواسطة هناء
عندما أصبت بالسرطان قبل سبع سنوات، وفقني الله تعالى إلى البحث عن مشبثات للحياة . كنت أحتاج إلى هذه المشبثات التي تذكرني أن الحياة جميلة وتستحق أن أقاوم المرض لأجلها وأن لا أستسلم للتيار كي يجرفني بعيداً. إحدى هذه المشبثات كانت استنئناف دراستي الجامعية والتي شرعت فيها بعد انتهاء علاجاتي مباشرة.. (راجع تدوينتي خريجة أخيراً ) .
الخطوة المنطقية التي تلي التخرج عادة هو العمل، فكان اختياري لمدرسة بنياتي الخاصة لأعمل كمعلمة للمواد الدينية للمرحلة الابتدائية ومدرّسة تقوية اللغة الانجليزية للصفوف الثانوية ( تناقض، صح؟) .
بدأت يومي الأول في الدوام بحماس منقطع النظير. استيقظت قبل الجميع ورتبت أوراقي وحقيبتي، وكنت كطالبة الروضة المتحمسة لروضتها .. للأسف ، تهاوى هذا الحماس في نهاية الأسبوع الأول ، بعدما أدركت أن الجد قد جَدّ، وأن عليّ أن أودع فعليا نوم الضحيات .
كنت أستيقظ يومياً متثاقلة أجرجر قدمي وأغمغم بسخط على “المشورة المهببة” التي جعلتني أترك حياة الدعة وألجأ إلى “البهدلة” اليومية . أحسست أن بعض متابعي تويتر صار يشمت بي لكثرة ما كنت أداعبهم صباحا بتغريدتي :”عودة للنوم مجددًا، ولا عزاء للمداومين والطلبة”! ولكني شيئاً فشيئاً بدأت أتأقلم على هذا الروتين الذي نظم لي حياتي، وبعد أسبوعين من المعاناة والصراع مع الدوام الجديد ، تصالحت معه وبدأت أعشق العمل.
أنا بطبيعتي أحب التدريس.. وأي عمل يتيح لي الثرثرة على رؤوس الخلائق والقيام بمهمتي كأم تعشق إسداء النصائح بذات الطريقة التي تجيدها مع أولادها المساكين سيكون مرحّباً به ولا شك، لذا فقد شققت طريقي في هذا الأمر بجدراة وذلك بفضل الله وحده.
كل يوم يمر كنت أكتشف بعض الثغرات في نظام التعليم .. خذ مثلاً:
- الحصص الدراسية قصيرة جدًا مقارنة بالمناهج المزدحمة.. فإذا كانت الحصة 45 دقيقة تضيع منها عشر دقائق على الأقل في دخول المعلمة وانتزام الطالبات وأخذ الغياب والسؤال عن الكتب ومراجعة الواجب، فكم يتبقى من الحصة ؟ كنت أعجب ممن يقول أن هناك معلمات ينهين الدرس قبل انتهاء الحصة .. أيعقل هذا؟ لم أنهِ درسي أبداً قبل انتهاء الحصة، بل كنت أضطر دائماً إلى أخذ حصص الفراغ لإكمال دروسي ..
كيف تريدونني أن أطبق استراتيجيات التعلم التعاوني وأعطيهم أوراق عمل وأشرح لهم بعض الغوامض، وأجيب عن أسئلتهم الفضولية في 30 دقيقة فقط؟ أنا يا جماعة معلمة دين وطالبة علم، وهؤلاء ناشئة يتعرضون لشبهات يومية وعندهم أسئلة، أفيعقل أن أترك الإجابة عن أسئلتهم التي قد تتوسع لمجرد أن عليّ إنهاء الدرس؟
- منهج الفقه للصف السادس الابتدائي فيه معلومات عن الركنين المعقدين علمياً على الكبار: الزكاة والحج ، فكيف بالصغار؟ ألم يكن من الأجدر تأخير تدريس هذين الركنين حتى تتسع مدارك الصغيرات لتفريعات الزكاة ويؤدين فعليا فريضة العمرة على الأقل ليسهل عليهن شيء من التخيل والفهم وزيادة حصة لمادة التوحيد خاصة وأننا نشتكي من ضعف العلم بالله وهو أصل العلوم وأشرفها؟
- مستوى القراءة والكتابة لدى الطالبات منخفض، وهذا كان هذا في مدرسة خاصة أعلم حرصها على تعليم طالباتها ، فكيف بالمدارس التي يتكدس فيها الطلبة في الفصل ولا يلقون فيها العناية الوافية؟ ما سبب ذلك يا ترى؟
- أما اللغة الانجليزية فلعلي أكتب فيها دواوين، ولا أريد الإثقال عليكم هنا بهذا الموضع ، لأني فيما يتعلق بتعليم الانجليزية بالذات ( لما أفك ما أصك )!!
في الحقيقة قضيت فصلا دراسيا ممتعا، ونشأت بيني وبين المعلمات علاقة قوية بفضل الله تعالى، ولكن لعل الله تعالى له اختيار أفضل يخصني. لم تقبل الوزارة شهادتي مع أنني خريجة جامعة حكومية معترف بها وهي جامعة الإمام محمد بن سعود الاسلامية بالرياض، وحصلت على تقدير امتياز مع مرتبة الشرف الأولى، ولكني – وهذه كلمة السر – : طالبة عن بعد !!! لم أكن منتظمة ، فلم أحصل على تطبيق عملي استمر فصلاً أو سنة .. وبالتالي لم أكن “تربوية ” جديرة بـ”تربية وتعليم” الطالبات بشكل صحيح .. أنا أم السبعة أولاد .. لم تفكر الوزارة بأن من الحاصلات على البكالريوس عن بعد من تكون أكثر جدارة بالتدريس ممن حصلن على “شهادة ” التطبيق العملي .. وبالتالي كان لزاما عليها أن تضع آلية مدروسة لاختبار مثيلاتي لمعرفة جدارتهن للحصول على الوظيفة التعليمية.
ومع حزني العميق على عدم قبولي واضطراري للتخلي عن مهنة أحببتها وأعطيتها جهدي كله، إلا أني –ولعلمي اليقين بحكمة الله تعالى – رحت أفتش عن الإيجابيات، وسرعان ما وجدتها .. وجدت أن التدريس مع مافيه من متعة فائقة، إلا أنه حرمني من هواياتي، خاصة وأني كنت أدرّس مساء في حصصي الخاصة لتعليم الانجليزية كلغة أجنبية. لم أعد أجد الوقت لأكتب، والكتابة رئتي الثالثة .. أحسست أني عشت فصلاً دراسيًا بضيق شديد في التنفس .. لم أعد أجد الوقت لأقرأ، فوقتي كله ضائع بين دوام صباحي، ودوام مسائي وبينهما تحضيرات. لم أعد أجد الوقت لأدرس، فأنا شغوفة دائماً بالانخراط في منصات التعليم عن بعد لأدرس شيئاً ما. حُرمت من زيارات الحرم النبوي الصباحية مع صديقاتي.. حُرمت من المحاضرات التي كنت ألقيها صباحا أو مساء في أحد المساجد أو بعض البيوت. حُرمت من مراجعة القرآن وطلب العلم. حُرمت من جلسة بنياتي، ومتابعة دروسهن ومراجعتهن للقرآن، بل وحتى الاستماع إلى حكاياهن .. كنت كما يقولون (أجري ما أدري)، وأنا بت في سن لم يعد هذا الجري فيه سهلاً .. وهنا، وبعد الموازنة بين الإيجابيات والسلبيات التي تخص حالتي وحدها، وبعد الاستخارة والاستشارة، رفضت الوظيفة الإدراية، وقررت العودة إلى نظام ربة المنزل ..
لم أندم على أيٍ من قراراتي، فكلها كانت باستخارة واستشارة .. يكفيني أني قد حصلت على مسمى معلمة واكتسبت شيئاً من خبرة، يكفيني تعرفي على ثلة من صديقات طيبات، يكفيني أني عرفت أن لي قبولاً في وسط الطالبات حديثات السن مع أني في عمر أمهاتهن، يكفيني أني سبرت أغوار نفسي وعرفت ما ينفعني وما لا ينفعني ..
الآن وقد مضى على ذلك الزمان أكثر من سنة فإنني قد أديت من الإنجازات ما عوضني الله به عن تركي للمهنة التي أحببتها. انتظمت في نظام صحي جيد وخسرت وزنا لطالما تقت لخسارته، واشتركت في نظام رياضي أون لاين حتى غدت الرياضة جزءًا مهمًا من يومي (ولا أعرف متى كنت لأتمرن لو لم أترك التعليم)، درست كورساً جديداً في تعليم اللغة الانجليزية ليتحسن أدائي في دروسي الخاصة، أنشأت مدونة بعد الأربعين والتي يغني عنوانها عن وصفها، وعدت من جديد للثرثرة على رؤوس الخلق في المحاضرات والدروس الشرعية التي أعشقها.
لا تحزن أبداً على مافاتك، فالله تعالى له اختيارات أفضل لك.. فقط ثق بالله وتحرك واسع وابحث وستجد ما يناسبك.