كيف تصنع شبيحاً ممتازاً
18 أفريل 2013 بواسطة هناء
كنت في شبابي أقرأ أحياناً عن معتقلات وزنازين جمال عبد الناصر والسادات وعن وسائل التعذيب التي تُمارس مع المخالفين ، ويقف شعري لكمية القسوة والجبروت التي احتوشت قلوب أولئك الزبانية . كنت أقول في نفسي : أكيد ، لا يقدر على تلك القسوة إلا غائب عقل أو ميت قلب .
حتى الآونة الأخيرة كنت أعتقد أن بلادنا تخلو من أمثال هؤلاء ، فنحن “ندرس” التوحيد والفقه منذ الصف الأول الابتدائي والمساجد منتشرة في كل مكان .. كان ذلك ظني حتى خرجت عدة مقاطع تصور شباباً فارغاً . فارغاً عن العمل والهم ، وفارغاً قلبه من الرحمة ، ولعله الإيمان .
أخبرني ابني مرة حانقاً غاضباً من مقطع رآه لشباب أمسكوا ثعلباً (حياً) من ذيله وقربوا رأسه من شكمان السيارة و(بوووم) !!
وآخر لشباب يسكبون على قطة صغيرة بنزيناً ثم يضرمون فيها النار .. حية!! كانوا يتسلون !! ثم قال : “يذكرون أن موقع يوتيوب حذف المقطع .. فشلونا الله يفشلهم !! “
ورأيت أنا مقطعاً لشاب “يتسلى” بضرب عامل بخيزرانة في يده ، وضربه حتى صار العامل يبكي بصوت مرتفع .. ينوح بالأصح .. ورغم أني أضع نفسي دائماً مكان الأم فآبى أن أدعو على شاب أزعجني بتفحيط أو تبختر بدباب مزعج أو رفع موسيقى عالية في الثالثة صباحاً إلا أن عدة دعوات انفلتت من فمي لا شعورياً حين شاهدت ذلك المقطع : جاك كسر في يدك . حسبي الله عليك . وجع الله يشيلك .
لم يكن الضرب في الحقيقة مؤلماً لهذه الدرجة ، وتساءلت : لِم لم يطلق الرجل لساقيه العنان ؟ أتراه الإحساس بالذل والقهر والعجز شل قدميه ، فلم يملك إلا العويل على كرامته المهدورة وعلى الفقر الذي دفعه ليترك وطناً وأماً وزوجة وابنة ، آملاً بمرتب –وإن كان مجحفاً- إلا أنه سيكفيه ليبني بيتاً يقي أهله من الأمطار اليومية ، ويجعلهم يأكلون اللحم أسبوعياً ويصنعون خبزهم من حَب أفضل ؟
هذه الكرامة التي تنزف دماً مسفوحاً هي نفسها التي حركت ثورات العالم .. حين لا تُراعى ولا تُدارى ، وتكون قيمة الإنسان في المجتمع أقل من قيمة نعال العمرة ، وحين يجتمع من هؤلاء الأشخاص الآلاف الذين يعانون من جور الكفيل وضعف الراتب وترف المخدوم وسماجته اللزجة فيتسلط عليهم بقلب تجرد من الرحمة والإنسانية فضلاً عن الأخلاق والذوق ، عند كل ذلك ، أعرف لم كان وجود هؤلاء الآلاف في بلادنا خطراً على أمننا .
وحين أنظر إلى أولئك السامجين اللزجين الذين “يتسلون” بأذية مخلوقات الله، وأحاول أن أفكر في كمية السادية التي تغلف قلوبهم بحيث يطربهم بكاء إنسان وعواء حيوان، أدرك أنهم نفس الشباب الذين يكسرون صناديق البريد الجديدة في الأحياء ، ويشعلون النار في الإطارات في الحدائق العامة ليتمتعوا بكمية جيدة من الإثارة حين يرون سيارة الإطفاء تهرع لتطفئ الحريق .. عندها أعرف منشأ زبانية السجون وشبيحة الأنظمة الجائرة .
الشباب في بلادنا مهمشين بالرغم من تصريحات المسؤولين بأنهم عماد الوطن وأنهم محل اهتمام الى آخر هذه الجعجعة التي لا نرى لها طحيناً ، وأبسط مثال على ذلك أن مدننا مدن عجائز .. لا ترى فيها ملاعب ولا مماشي ولا أماكن ترفيهية ، بل ولا دورات تدريبية . وأرجو ألا “ينبرش” عليّ أحد ويقول : موجود .
نعم هو موجود ولكن أين ، وبكم ، وكم منها تتوفر لكل ألفي شاب ؟
حينما زرت الولايات المتحدة قبل 28 عاماً تقريباً دُهشت لملاعب التنس العامة ( المجانية ) التي كانت (منتشرة) في المدينة التي كان يدرس أخي فيها، ومن يحب هذه اللعبة يعلم جيداً التكلفة العالية لإنشاء هذا الملعب.. ( تلميحة : الأرضية وحدها يكلف النوع الأدنى منها لملعب واحد : 45 ألف دولار ، بدون الكشافات والأسوار والشبكة ).
بلادنا تخلو من شواغل جيدة للشباب وتصريفات لطاقاتهم .. ويوم أن أرادوا أن يفعلوا لهم شيئاً ، سمحوا لهم بالدخول للمولات .
أين ملاعب الكرة المجانية التي لا تكلف شيئاً كثيراً ، أين المماشي المنتشرة في الأحياء ؟ لماذا لا تُفعّل مراكز الأحياء بأنشطة جذابة ودورات مهمة مدروسة ؟ أعجب من بلد مثل السعودية مترامية الأطراف تلتصق مبانيها التصاقاً مشيناً فلا يفصل شباك داري عن شباك جيراننا إلا أربعة أمتار فقط لسعر أمتار الأراضي المبالغ فيها ، فيضطر صاحب كل أرض أن يستغل جميع المساحات الممكنة لينشئ في أرضه أكبر قدر ممكن من الغرف والشقق ، ولا عزاء للأطفال الذين يحتاجون للجري والانطلاق تحت نظر أهاليهم وأسماعهم .
ما دور المدرسة ؟ لماذا لا يستفاد من مباني المدارس في الفترة المسائية وملاعبها ( إن وجدت ) . لماذا لا يتم الاستفادة من فكرة ساعات خدمة المجتمع بحيث تحسب في رصيد المراهق الدراسي ( المتوسط والثانوي) أو تؤخذ مع الاعتبارات الأخرى لقبوله في الجامعات مثلاً ، أو تستخدم كعقوبات لمن كانت جناياتهم خفيفة ، فيُكلفون بإعادة دهان الجدران الملطخة بكتاباتهم وتنظيف الشواطئ والعمل مع المؤسسات الخيرية والأربطة . بل أين المدرسون المعدون إعداداً طيباً ليغرسوا تقوى الله وتعظيمه في نفوس الناشئة أثناء تدربسهم مقررات الفقه والتوحيد والتي لا تزال تتناقص في كل سنة ، فلا يقتصر عملهم على إعطاء الدرس بصورة سطحية وإنما يكافحون بشدة في سبيل توصيل المعلومة وربط قلوب اليافعين بالله تعالى .
أين الدورات التدريبية في تطوير الذات وتنمية المهارات المختلفة والتي تكون بأسعار رمزية أو حتى مجانية .. كل الناس صاروا مصورين محترفين ، ولاعبي كرة ، ومنشدين ، وأطباء ومهندسين ، ولكن كما تعلمون ، نحتاج إلى مهرة في أعمال السباكة والكهرباء وصيانة السيارات والحواسيب والإسعافات الأولية والتعامل مع حالات الطوارئ .. ليس بالضرورة أن يمتهنوا هذه الحرف ، ولكن يكفي أن يعلموا أبجدياتها مثلما يُفرض على البنات تعلم الأعمال الفنية العقيمة بالرقائق المعدنية وحرق الخشب وألوان الاكريليك التي لا تخرج من الملابس إذا صبغتها خطأ . الطلاب بحاجة إلى تعلم الأساسيات في المنزل وفي السيارة ، وهذا لن يتم مع اعتقادهم بأن (برستيجهم) سيندمر تماماً مع هذه الوظائف الخاصة بفئة ( صديق ) ، فكان واجباً على الدولة تشجيعهم على الإقبال عليها بوضع حوافز مادية وتشجيعية و(تهديدية) ، وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ..
لماذا لا يُفتح باب التجنيد الإجباري ليكون شبابنا رجالاً ؟ التجنيد يعلم الشدة في العيش وقوة التحمل ومهارات أخرى يحتاجها الفرد في الطوارئ . لا أعرف لم يُفترض دائماً أن بلادنا لا أعداء لها وستبقى أبداً في رغد وهناءة .. أليس عدم وضع الاحتمالات الأسوأ من العَجز وسوء التدبير ؟
أين القوانين الصارمة والمفعلة التي تسري على الجميع بلا استثناء ، بل بالقوي قبل الضعيف ، وبالشريف قبل الوضيع ، فإن من أمن العقوبة أساء الأدب .. وأي إساءة أدب أكثر من أن تنشر المقاطع تلو المقاطع في تحدٍ سافر لجميع الأخلاق والمشاعر ، لعلمهم بأن ( ما عندك أحد) !
أليس إشغال الشباب بالنافع والمفيد هو تصريف طاقات مكبوتة تظهر آثارها المصغرة في تخريبات اليوم الوطني وقتلى التفحيط وحرق القط وضرب المستضعف الذي لا نُنصر إلا به .
وأرجو أن لا يُفهم أني أهوّن من شأن التربية المنزلية ، فالطفل المستهتر يبدأ استهتاره واحتقاره للضعفاء من بيته حين يرى الأم والأب والأخوة الكبار يحتقرون الخدم ، ويرمون المخلفات في الطريق ولا ينشطون لغرس القيم والأخلاق الحسنة في نفوس أبنائهم ، ولكن هل كل الناس يهتمون لذلك ؟ وإذا لم يهتم الآباء ، فأين دور المدرسة والمجتمع والدولة ؟
كما أني لا أحمّل الدولة مسؤولية توفير وبناء كل شيء – مع اعتقادي أنها قادرة على ذلك لو فعلت – ولكن أين دور الشركات والمؤسسات والبنوك التي تأخذ ولا تعطي إلا بثمن .. لِم لا نرى برامجهم ، كلٌ بقدرته ، في تطوير المجتمع والمساهمة في حل مشاكل الإسكان كتوفير بعض المساكن أو المساعدة في البناء بالقروض الحسنة اليسيرة والإسهام في البرامج الشبابية والعائلية التي تساهم في تحسين دخول العائلات رقيقة الحال .. أين دورهم في رعاية الشباب وإقامة النوادي والمكتبات العامة والنشاطات التدريبية والتطويرية ، ومن ثم تعيينهم في وظائف بدوام جزئي بعد الدوام المدرسي فيستفيدون من ذلك مادياً ونفسياً .
تقولون أن كل ذلك موجود ؟ أقول : أين ، وما مدى استفادة الشعب منها ؟
الهموم كثيرة والحلول أكثر ، ولا ينقصنا الجهد ولا المال وإنما ينقصنا الهمة وحسن التخطيط . هناك شبيحة صغار ينمون بيننا إذا لم نتداركهم بحلول حكيمة ومنطقية ، والأمر إليكم فانظروا ماذا تفعلون .
0.000000
0.000000
أرسلت فى نظرات ثاقبة | مصنف تطوير, خواطر | 3 تعليقات
أستاذة هناء تحدثت عن جوانب مهمة و جوهرية للمشكلة أوافقك في جلها ، ولكن أحب أضيف كبنت سعودية أنه حتى لو أنشأت الدولة أو الشركات هذه المرافق فلن تستفيد شريحة معينة من البنات اللواتي يتمنين أن يعرفن كيف للإنسان أن يعيش الحياة الحقيقية ويرفه عن نفسه بأمور مباحة ، لأن هناك بعض النظريات الاجتماعية تحكم تحركات البنت وتمنعها من ممارسة الحياة الطبيعية فتكبر والإكتئاب يقتل حياتها ثم نلومها بعد ذلك .
مع تحيات بنت اقتربت من سن الثلاثين سنة و لا تتمكن من الخروج من المنزل إلا في الأعياد أو حضور مناسبات اجتماعية بسبب العادات والتقاليد . أمثالي يا أستاذة هناء ليس لهم إلا الإنترنت حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا .
لعل ذلك يكون موضوع تدوينة أخرى إن شاء الله
هنو طرحتي موضوع هام جدا للمجتمع وأعجبني كثرة أمثلتك حتى لا يكون لأي أحد عذر في الإختيار , ولكن مع كل أسف هناك شرائح كبيرة في المجتمع حتى لو توفرت لها الفرص تتركها إما كسلا أو إعتقادأ بعدم الجدوى أو عدم الوعي أصلا بقيمة هذه الفرص
أرجو أن لآ توضع هذه الإقتراحات في الأدراج حيث ينطوي عليها الزمن ونستيقذ يومأ على لا شيء .
لك حبي وتقديري