يوم فاتني صوم عرفة
5 فيفري 2013 بواسطة هناء
حين أنهيت علاجاتي الأساسية من مرض سرطان الثدي في شهر ذي القعدة من عام 1431هـ ، بدأت في تناول العلاج الهرموني Tamoxifen لمدة خمس سنوات . ولأن الوظيفة الأساسية للإستروجين هو الإسراع في عملية تكاثر الخلايا ، فإن بإمكان الإستروجين تنشيط نمو الخلايا السرطانية ساعة ظهورها ، فإذا كان ورم الثدي يعتمد على هرمونات الجسد الطبيعية للنمو فعندها يوصف الورم بأنه مستقبل إيجابي للإستروجين أو البروجسترون ، وهذا يعني أن أي خلية سرطانية تبقى بعد العملية قد تستمر في النمو طالما أن هذه الهرمونات متوفرة في الجسم . فكانت مهمة العلاج الهرموني – بإذن الله – التقليل من كمية الهرمونات الطبيعية في الجسم ، أو منع الهرمونات من وصولها إلى أية خلية سرطانية باقية .
إلا أن العلاج الهرموني كأي علاج آخر له آثار جانبية غير محمودة ، وقد كان من الآثار الجانبية لذلك الدواء بالذات احتمالية حدوث جلطات بالساق ، أو نشوء سرطان آخر في الرحم ، ناهيك عن إبطاء نزول الوزن ، مما كاد يسبب لي الجنون أن أقوم بعمل رياضة بشكل شبه يومي وألتزم بحمية غذائية مناسبة ولا ينزل وزني في سنتين إلا ست كيلوات فقط .
مرت سنتان وبدأت بعض التغيرات تطرأ ، وقرر طبيبي تغيير عقار Tamoxifen إلى عقار آخر وهو Femara ، والذي خلا عن تلك الآثار الجانبية السيئة ، إلا أنه يسبب هشاشة للعظام . ولأجل ذلك كان علي تناول إبرة مضادة لهشاشة العظام مرتين في السنة ..
اتجهت في الثامن من شهر ذي الحجة الماضي إلى مستشفى الملك خالد للحرس الوطني لتناول هذه الإبرة .
علاقة عجيبة تربطني بهذه المستشفى .. أحبها جداً ، ولا أعرف لذلك سبباً .. ألا يفترض أن أكرهها حيث شهدت أيام الكيماوي الغثيث والعملية المؤلمة والإشعاعي المزعج ؟
ولكني أحبها ، وأجد قلبي معلقاً بها بشكل مضحك ومثير للاستغراب .. معها يصلح القول بأن حب الديار هو الذي سكن قلبي وليس حب من سكن الديارا .
ومع هذا الحب ، فإني لا أزال ، كلما دخلت من الباب الرئيسي لمركز الأميرة نورة للأورام بمستشفى الحرس وأشم رائحة القهوة تصدح في الأرجاء حتى يبدأ الغثيان لعبته السخيفة في مؤخرة حلقي وهم يبتسم : فاكرة ؟
توجهت أولاً إلى المختبر لإجراء بعض تحاليل الدم المهمة ، وانتظرت بعض الوقت في غرفة الانتظار ..
هي غرفة انتظار فعلاً حيث تضطر أحياناً لانتظار موعدك لمدة ساعتين أو أكثر ..
وحينما نودي على اسمي راعني أني أتوجه إلى قسم العلاج الكيماوي ، وهنا أخذ الغثيان بالتقافز كالمجانين .
دخلت عنبر الكيماوي وأخذت أقلب ناظري في أرجائه ؛ الحجيرات الصغيرة المغطاة بالستور القماشية ، أصوات الطنين الصادرة من أجهزة المحاليل ، أصوات تأوه خافتة تنبعث من بعض الحجيرات ، وأنا أمشي ، عيناي تدمعان وأنا أذكر تلك الأيام الخوالي ، كيف منّ الله تعالى علي بالشفاء ، وتتحرك شفتاي بالدعاء لمن هم بالداخل لا يزالون في بداية مشوارهم . دخلت إحدى الحجيرات ، يتوسطها كرسي كذلك الذي تجده في عيادة طبيب الأسنان ، جهاز المحاليل ، طاولة صغيرة وتلفاز معلق .
في نفسي توجس ، فعلى الرغم من أني قضيت الليلة الماضية في تصفح المواقع الأمريكية للتعرف على هذا العقار المسمى Zometa ، إلا أن بقايا خوف قديم لا زال معششاً في صدري ..
لم أقرأ أية أعراض (سيئة ) لهذا العقار إلا أنه قد يؤدي إلى أعراض كأعراض الانفلونزا في اليوم الأول ..
أعراض الانفلونزا ؟ الأمر سهل إذن ..
توكلت على الله وبدأ العقار بالولوج داخل عروقي ببطء ..
الخوف .. الخوف فقط هو المزعج .. بقايا التجارب السابقة ، ذكريات الكيماوي القديم في ذات الحجيرات ، و الخوف من المجهول الجديد كانت كفيلة بتضخيم بعض المشاعر السلبية .
ربع ساعة ثم صدر الطنين المزعج المؤذن بانتهاء كل شيء .. قمت وأنا لا أكاد أصدق نفسي . أهذا كل شيء ؟
لحقتني الممرضة وبيدها علبة قائلة : نسيتي تناول وجبتك .. وكأنما كانت تمسك بعلبة فيها ثعبان الكوبرا ، لوحت لها بيدي وأسرعت للخارج وأنا أقول : لا ، شكرا لا أريد .. طبعاً لا أريد .. لو كان بك بعض من فضول فاقرأ كتابي تعرف السبب الحياة الجديدة ، أيامي مع سرطان الثدي..
طوال الطريق إلى المنزل جلست أفكر وأستعيد ذكريات المرض .. ثلاث سنوات مرت حتى الآن .. نسيت تقريباً كيف كانت مشاعر الألم والخوف و الترقب .. لا أظنها كانت بذاك السوء ..
وهنا ورد ذهني خاطر : ماذا لو عاد المرض ؟ فأجبت نفسي بثقة : لو عاد ، فسأصمد بإذن الله كما صمدت سابقاً.
مر يومي على ما يرام ، واختفى الغثيان حال خروجي من المستشفى وظللت أرقب أعراض الانفلونزا فلم أجد شيئاً .
أويت إلى سريري مبكرة في تلك الليلة ، فاستيقاظي فجراً ، والتوتر الذي لحقني في عنبر الكيماوي كان كفيلاً بإصابتي بالإرهاق في العاشرة والنصف مساء .
تمددت في فراشي وأخذت أداعب تويتر قبل النوم ، ولا أعرف كم مرة ( تمطعت ) خلال ربع ساعة .. ( ما مرادف هذه الكلمة في اللغة الفصحى ؟)
هنا أحسست أن هناك شيئاً غريباً .. هل من الطبيعي أن يتمطع الشخص أربعاً أو خمساً في ربع ساعة فقط ، تمطعاً عميقاً من القلب ؟ وضعت سؤالاً في تويتر : هل التمطع الكثير يمكن أن يكون إشارة إلى خلل ما ؟ وكنت آمل أن ينتبه إلى هذا السؤال بعض متابعيّ من الأطباء ، ولكني لم أتلق إجابة سريعة إذ سرعان ما غرقت في نوم عميق ..
أفقت في وقت ما من الليل وأنا أرتجف ارتجافاً شديداً من البرد.. كانت أسناني تصطك بشكل مزعج ..
ناديت ابنتي لطيفة مراراً ولكنها كانت نائمة فلم تعر لي بالاً ، ثم ناديت شمس النائمة إلى جواري فاستيقظت وطلبت منها أن تتمدد فوقي لتدفئني .. التصاق جسمها الصغير بجسمي بث في أوصالي شيئاً من حب ودفء ، ولكن شعوري بالبرد كان أعظم من ذلك . كانت شمس قصيرة جداً لتصل إلى مفتاح الحرارة في المكيف لتخفض البرودة ، وصغيرة جداً لتحضر لي غطاء آخر تلقيه علي ، فاكتفيت باحتضانها . ثم أني أشفقت عليها فأعدتها إلى فراشها ، وعدت إلى ارتجافي .
عظامي تؤلمني بشدة ، حرارة قوية تشع من رأسي ، فكّاي يصطكان بصوت مزعج ، وأنا أتألم .. نعم .. أتألم من البرد ، و الحرارة ، والوحدة ، و الهواجس .. هذه – يا هناء – الأعراض الشبيهة بالانفلونزا ..
حاولت أن أقوم لأخفض برودة المكيف ولكني كنت أشعر ببرد شديد وضعف في عظامي منعاني من التحرك .. رحمة الله أرسلت لي أخي الذي سمعته يتحرك بالخارج فناديته ليساعدني .. غطاني بغطاء آخر ، وأحضر لي مسكناً ، ورقاني ، وعرض عليّ الذهاب للطوارئ ولكني رفضت لأني أعرف أن هذه آثار الزوميتا الجانبية .
نصف ساعة مرت علي كنصف قرن حتى صرت أهذي :
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل بصبح وما الإصباح منك بأمثل
حتى بدأت أتصبب عرقاً ، وشيئاً فشيئاً خف البرد وخفت الحرارة ونمت .
كنت أحسب أني سأستيقظ نشيطة بعد المسكن ، ولكني استيقظت بنفس حال الليل : الارتجاف والبرودة والحرارة العالية .. واستمر هذا الوضع معي أربعاً وعشرين ساعة كاملة ، ما بين كمادات تثير الرجفة في أوصالي ، وآلام مبرحة في العظام ، وضعف شديد في الجسم ، وشهية معدومة ، ونوم مستمر شبيه بالإغماء ، ونهمة قوية لتناول المسكن كل أربع ساعات أو أقل لو سمحت لي أمي .
وهنا لسبب أجهله تذكرت ما كنت أفكر فيه البارحة :
” وهنا ورد ذهني خاطر : ماذا لو عاد المرض ؟ فأجبت نفسي بثقة : لو عاد ، فسأصمد بإذن الله كما صمدت سابقاً”.
علمت في ذلك اليوم رحمة الله تعالى بعباده بنعمة النسيان .. فعلى الرغم من معاناتي لعام كامل من السرطان إلا أني الآن وبعد مرور ثلاث سنوات نسيت كل شيء عنه ..
وعلمت سرعة غرور العبد حالما ينجلي البلاء .. جاءت هذه الأعراض لتذكرني أن الأمر ليس إليّ ، وأن ثباتي ليس بكسب يدي وإنما هو توفيق من الله . المرض كان عارماً ، ذكرني بتعب الكيماوي .. الألم في عظامي كان قوياً .. تشوش الذهن كان جارفاً وكأني في وسط دوامة أصارع الموج ، فأطفو تارة وأغطس تارة ، وما بيت هذا وذاك أبتلع وأتنفس الكثير من الماء !
عندها سألت نفسي مرة ثانية : ماذا لو عاد المرض ؟ فأجبت نفسي بانكسار : لو عاد ، فأنا تحت رحمة الله ، أرجو أن يساعدني ويلطف بي ..
فاتني صوم عرفة تلك السنة .. ولكني أدركت درساً جيداً في الاعتماد على الله لا على النفس .
0.000000
0.000000
أرسلت فى ذكريات بطعم السرطان | مصنف نعم الله, السرطان, خواطر, سرطان الثدي | 8 تعليقات
استاذة هناء
لا تعلمين كم من القوة تبعثها كلماتك في نفسي!
ادام الله عليك الصحة والعافيه 3>
شكرا فدوى .. تسعدني كلماتك
و أنا اقرأ السطور ، لم يسعني سوى القول المتواضع بأن لك روحاً جميلة نادرة هذه الأزمنة ، أكاد اسمع صوتك وأنت تكررين كلمات التفاؤل على نفسك ! أدام الله عليك الصحة وأبعد عنك كل تعب أبله هناء … ابنتك : سارة
آمين .. جزاك الله خيرا يا سارة
وصفك دقيييق جداً جعلني أتخيل الوقت الثقيل في غرفة الانتظار
و برودة غرفتك و ارتجافك و خوفك ..
أسأل الله أن يعافيك أبداً مابقيتِ يا أستاذة هناء
لا أحب ان يفوتني حرف كُتِبَ هنا
دائماً حطي روابط لتدويناتك و كرريها و ذكرينا
شكرا لك . أحياناً أخجل لكثرة ترديد الروابط أشعر أني افرض نفسي فرضاً ، ولكن أتذكر أن هناك الكثير ممن قد فاتهم الإعلان فأعود وأذكر به ..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته…. مااتخيلين خالتووا هناء لما امررر علي مدونتك احس بكل شي فيها من امل وتفائل وحب للحياة اقدر الحياة التي اعيشها تزيد فيني تفائل وحبب لأمل … ادام الله عليك الصحة والعافية .. ابنتك عبوره العنزي…..
يشرفني زيارتك لمدونتي الجديدة ……
http://abeercreativit.blogspot.com
[…] عليكم بالطويلة، فهذه الحكاية حكيتها في تدوينة يوم فاتني صوم عرفة […]